هل الإنسان يتغير حين يصير صاحب سلطة، افتراض تثبته أمثلة تاريخية أكثر من أن تُحصى، وينطبق على معظم من تربعوا على سدة الحكم، في مختلف الأماكن والأزمان، بغضِّ النظر عن اتجاه هذا التغيير وشدته ومسبباته… ما سبب هذا التغيير؟ أهي السلطة بطبيعتها وتعقيداتها ومغرياتها ومسؤولياتها؟ أم أن الجدل الأساسي يكمن حول لفظة التغيير بحد ذاتها، أي أنَّ ما نخاله تغييراً ليس سوى انكشاف المرء أمام من وضعوا ثقتهم به أو نشدوا فيه أملاً ما، أو ربما في أحيان كثيرة انكشافه أمام نفسه حين أظهرت مرآة السلطة وجهه الآخر “الحقيقي” وعرّت نواياه ومبادئه واهدافه؟ طبقاً لما قالته زوجة الرئيس الأميركي الأسبق ميشيل أوباما في أحد تصريحاتها: “أن تكون رئيساً لا يغير منك، إنه يكشف ما أنت عليه بالفعل”.
أمام سطوة السلطة والقوة، قلّة هم الناجون منها، رغم أن تأثيرها يحدث بدرجات مختلفة تبعاً للدولة وشكل النظام السياسي فيها؛ فمن الطبيعي أن تكون الأنظمة الاستبدادية أكثر قدرة على إعادة إنتاج نموذج الحاكم نفسه في كل مرة، لأنها تفتقد عموماً إلى أدوات التجديد، فضلاً عن رسوخ بناها التقليدية والتي لا تترك هامشاً كبيراً للتغيير. وغالباً بدل أن يستغل “صاحب السلطة” الجديد فترة حكمه لتحقيق وعوده، يحول تلك الوعود سلَّماً لتحقيق مصالحه الشخصية، وإذا تمكنّ منه إغراء السلطة أكثر، فإنه سيسعى إلى فعل كل ما يضمن له بقاءها في يده، حتى لو عنى ذلك الانقلاب على مبادئه أو جماعته، وتبديل جلده “الناعم” الذي ظهر به من قبل بآخر سميك وخشن لم يعتده مناصروه.
نعرف كلنا أنه، وقبل وصول أي فرد إلى السلطة، بالانتخاب أو بالانقلاب، لا بد من المرور بمرحلة تملؤها الشعارات والوعود، تستهدف مشاعر الشعب، وآماله ومطالبه، وتُدغدغ عواطفه ومشاعره، وتعد بتحقيق ما فشلت السلطة السابقة في تحقيقه، فيبشِّرُ الساعي إلى السلطة الناسَ بحلِّ مشكلاتهم وتحسين أوضاعهم، وبعهد جديد لا يشبه سابقه.. لكن وبعد أمدٍ –قصير أو طويل– يبدأ الحاكم الجديد بالتحول شيئاً فشيئاً، متحللاً من معظم الوعود التي أطلقها، وفي أحيان كثيرة قد ينقلب كلياً على جملة ما نادى به، فيبدو وكأنه قد تسلّق هموم الناس لتحقيق مصلحة شخصية، أو كأن السلطة قالب جاهز لم يستطع سوى الانصهار فيه لينتج نموذجاً مشابهاً لمن سبقه، وربما أسوأ!
لماذا يتغير الإنسان حين يمتلك السلطة أو القوة؟ هل العلّة في الطبيعة الإنسانية أم في السلطة ذاتها؟ أعتقد أن الإجابة هي مزيج من الاثنين معاً. يرى سيغموند فرويد مؤسس مدرسة التحليل النفسي أن الأنانية تشغل حيزاً واسعاً في البنية النفسية الإنسانية، ويذكر العالم البريطاني ريتشارد دوكينز في كتابه “الجين الأناني” أن الإنسان أناني بطبعه ولولا ذلك لما استطاع البقاء، وعلى أساس هذه الأنانية ظهرت المنافسة والصراع على الموارد، الأمر الذي سمح بتطوير سمات مثل العنصرية والغطرسة ومن ثم اندلاع الحروب.
كان لدى كليمنتن، زوجة رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل، الشجاعة لتكتب له في إحدى الخطابات: “حبيبي ونستون، يجب أن أعترف أنني لاحظت تدهوراً في أسلوبك؛ وأنت لست لطيفاً كما اعتدت أن تكون”، وذلك بعد أن أسرّ لها أحدهم أن تشرشل كان يتصرف “بازدراء شديد” تجاه مرؤوسيه في الاجتماعات.. قد تأتي هذه التصرفات أحياناً نتيجة ثقة مطلقة بالنفس تجعل صاحب السلطة يعتقد أنه وحده على صواب والآخرين جميعهم مخطئون، وهنا تكون بداية التغيير السلبي.
ويقول الإمام علي بن أبي طالب: “الولايات مضامير الرجال”، وفيها تظهر حقيقتهم وقدراتهم وصلاحيتهم أو العكس، كما أن القوة والسلطة كفيلة بوضع الإنسان أمام اختبار فعلي لمبادئه وأفكاره ووعوده تجاه من يتولى مسؤوليتهم، فإذا كنا كدول وشعوب عربية ننشد حكاماً لا يضعون أقنعة ولا يقعون في شرك السلطة المغري، علينا أن ندرك أن ذلك يرتبط بنا في جزء كبير منه. وحين نكون أكثر قدرة على الاختيار وأكثر التزاماً بالقوانين وابتعاداً عن الانتماءات التي تقيد خياراتنا، نكون قادرين أيضاً على المحاسبة والمساءلة حين يقرر صاحب السلطة أن يدير لنا ظهره ويُبدِّل جلده.