تعتبر معركة المنصورة الجوية، التي دارت فوق سماء الدلتا المصرية، يوم 14 أكتوبر من عام 1973، أهم المعارك الجوية في التاريخ العسكري الحديث، ليس بشهادتي، كأحد أبناء المؤسسة العسكرية المصرية، ولكن بشهادة أهل العلم والخبرة على مستوى العالم. فعندما نتحدث عن تلك المعركة العظيمة، دعونا نستمع إلى ما قاله الآخرون، خاصة في بريطانيا، وتحديداً في كلية كمبرلي الملكية لأركان حرب، التي درست فيها لمدة عام ونصف العام، بدءاً من عام 1974.
كان من ضمن المناهج العملية للدراسة، تنظيم مشروع تدريبي، مشترك، مع كلية الأركان حرب الجوية البريطانية، في براكنيل، لمدة أسبوع، لنتعرف خلاله على أساليب قتال القوات الجوية، وآليات التعاون، مع القوات البرية، أثناء عمليات القتال. فبدأت المحاضرات بالتعرف على نشأة، وتطور، القوات الجوية، بينما خصص جزء من المحاضرات، لدراسة أهم المعارك الجوية، والدروس المستفادة منها، فإذا بي أفاجأ بأن ظهر على شاشة العرض، أهم معركة جوية في العصر الحديث، وهي “معركة المنصورة الجوية”، فشعرت بمزيد من الفخر والعزة، وأنا استمع إلى نظرة الغرب، لهذه المعركة، التي تعرضها أكبر كلية متخصصة في الطيران الحربي، في العالم.
تلك المعركة التي شهدتها سماء الدلتا المصرية، يوم 14 أكتوبر 73، فوق مطار المنصورة العسكري، بين 200 طائرة حربية؛ 120 منهم، من أنواع الفانتوم وسكاي هوك والميراج 2000، تابعة للعدو الإسرائيلي، و80 طائرة حربية مصرية، من طراز ميج 21، وسوخوي 7، والميراج 2000. دارت هذه المعركة لمدة 53 دقيقة، لتسجل كأطول، وأعنف، وأشرس، معركة جوية في التاريخ العسكري الحديث، ورغم التفوق العددي، والنوعي، لطيران العدو، إلا أن حجم الخسائر، بين صفوفهم، وصلت إلى 17 طائرة إسرائيلية، بينما خسرت مصر خمس طائرات؛ اثنتان منهم بسبب نفاذ الوقود.
حظيت هذه المعركة باهتمام الدوائر العلمية، حول العالم، لعدة أسباب؛ أولها، لأنها كانت المرة الأولى التي يدور فيها قتال جوي، مباشر، بين طائرات روسية الصنع، وطائرات غربية الصنع. والسبب الثاني أنها أول معركة جوية تستخدم فيها أسلحة إلكترونية حديثة، والأسلحة الإلكترونية المضادة، خصوصاً التشويش على رادارات الطائرات من كلا الجانبين. أما السبب الثالث فلأنها أبرزت كفاءة عناصر التوجيه الأرضي، في غرف عمليات المطارات المصرية والإسرائيلية، كما بزغ فيها كفاءة الأطقم الأرضية، خاصة على الجانب المصري، التي نجحت، مع هذا الكم من الطائرات، في الجو، طوال مدة المعركة. كما كان لاشتراك 4 مطارات حربية، مصرية، في هذه المعركة، الفضل في رفع تقييم القوات المصرية، لصعوبة تنسيق خروج الطائرات من تلك المطارات، وتوقيتات الاشتباك الجوي، والعودة بسلام، خاصة أن معظم المطارات في الدلتا متقاربة، بعكس الطائرات الإسرائيلية، فكانت بعيدة، الأمر الذي يسهل السيطرة عليها.
وكان للخبرة، المتراكمة، للقوات الجوية المصرية، في التعامل مع قوات العدو، خلال حرب الاستنزاف، الفضل في التفوق الفكري، في فهم لغة الخصم، حيث كان الفكر الإسرائيلي الجوي، يعتمد، دوماً، على الهجوم من خلال ثلاث موجات؛ تكون مهمة الموجة الأولى، إغراء المقاتلات المصرية، واستدراجهم لاتجاهات بعيدة عن الأهداف المكلفين بالدفاع عنها، أما الموجة الثانية الإسرائيلية فكانت هي القوة الأساسية، المكلفة بالهجوم على الرادارات، ووحدات الدفاع الجوي المصري، من الصواريخ والمدفعية، بينما تختص الموجة الثالثة بضرب الأهداف المحددة لها، كتدمير القواعد العسكرية المصرية.
بدأت “معركة المنصورة الجوية” في الساعة الثالثة وخمس عشر دقيقة، عندما أنذرت مواقع الرادارات المصرية، على ساحل الدلتا، باقتراب 20 طائرة، من طراز الفانتوم، من ناحية البحر المتوسط، لتجنب حائط الصواريخ المصري، على الضفة الغربية لقناة السويس. فقررت قيادة القوات الجوية المصرية عدم اعتراض الموجة الأولى، مما أفشل مهمتها في جذب المقاتلات المصرية، فعادت أدراجها، عبر البحر المتوسط، إلى القواعد الجوية الإسرائيلية. وفي الساعة الثالثة والنصف، أظهرت شاشات الرادارات المصرية، وجود 60 طائرة قادمة من ثلاث اتجاهات، من ناحية البحر؛ بورسعيد، وبلطيم، ودمياط، فأقلعت 16 طائرة، ميج 21، من مطار المنصورة الجوي، ثم 8 طائرات من قاعدة طنطا الجوية، للتصدي لها. أعقب ذلك، بثمان دقائق جاء، إنذار للقوات الجوية، باقتراب 16 طائرة إسرائيلية، قادمة من اتجاه البحر المتوسط، على ارتفاع منخفض، وبدأ القتال الجوي، فوق سماء دلتا نهر النيل، ليبدأ معه تدفق باقي الطائرات الإسرائيلية، واشتعلت السماء المصرية بأكبر معركة جوية، استخدم فيها الجانبان، أحدث ما يملكانه في ترساناتهما الجوية، سواء المقاتلات، أو أجهزة التشويش اللاسلكي، والراداري.
وبعد المحاضرة التي استمرت لأكثر من ساعتين، تم فيها حساب توقيتات إقلاع الطائرات من المطارات الإسرائيلية، ووصولها للأهداف فوق دلتا نهر النيل، والإجراءات المضادة من القوات الجوية المصرية، خلص الخبراء العسكريين إلى أنه بالرغم من التفوق العددي، والنوعي، للطائرات الإسرائيلية، إلا أن خبرة المصريين، وكفاءتهم في التغلب على الطائرات والأسلحة الإلكترونية الإسرائيلية المضادة، حسم المعركة لصالحهم … ولازلت أذكر شعور الفخر الذي عشته بين باقي زملائي من الضباط الإنجليز والضباط الآخرون من 42 دولة، وهم يتحدثون جميعاً عن عظمة الجيش المصري، وقواته جوية التي حققت هذا النصر العظيم، في أطول وأعظم معركة جوية في التاريخ العسكري الحديث.
وهكذا استحق يوم 14 أكتوبر، أن يُخلد كعيد للقوات الجوية المصرية، التي تفتخر بأبنائها، ليس في مصر، فقط، ولكن أمام العالم كله، فهم، حقاً، نسور السماء المصرية، وخير أجناد الأرض.