الدكتور ناصر الجندي يكتب قصة قصيرة بعنوان “صرخة في ظلام الجحيم”

بقلم الدكتور ناصر الجندي
اليوم الذي لا مهرب منه
حلَّ اليوم الذي كان الجميع يخشاه. يوم القيامة. السماء انطفأت، واسودّت كما لو أن شمسها أُطفئت إلى الأبد. الهواء كان مشبعًا برهبةٍ ثقيلة، كأنّه يحمل أصوات ملايين الصرخات القادمة من العدم. وقف البشر صفوفًا، وجوههم شاحبة، وقلوبهم تتسارع نبضاتها تحت وطأة المجهول.
في ذلك الحشد، كان جلال البنداري يقف مرتجفًا. لم يكن ذلك المعلم الصارم الذي يخشاه طلابه، ولا الرجل المتجبر الذي فرض سلطته ظلمًا. بل كان مجرد روحٍ صغيرة، تائهة في بحر الرهبة. كان يعلم أن الحساب لن يكون سهلًا.
فجأة، دوّى صوتٌ من الأعالي، صوتٌ مزلزل لا يشبه أي صوتٍ سمعه في حياته:
“جلال البنداري، تَقَدَّم!”
شعر كأن الصواعق انطلقت داخله. تجمدت قدماه، لكن قوةً خفيةً دفعته إلى الأمام. خطواته كانت ثقيلة، وكأن الأرض تحاول التهام قدميه مع كل حركة. أحاطت به ظلالٌ سوداء، تتحرك كأشباحٍ جائعة، تراقبه بصمت.
حين نطقت صحائفه بالحق
وقف جلال أمام الملكين، وامتدت أمامه صحائفه، لكنها لم تكن أوراقًا، بل شظايا من ماضٍ قاسٍ. كانت سوداء، تنزف ظلامًا، تحمل بين سطورها صرخاتٍ لم يسمعها من قبل، ودموعًا تجاهلها عمدًا.
قال الملك بصوتٍ اخترق كيانه:
“كنت معلمًا، أليس كذلك؟”
تلعثم جلال، وكاد أن ينهار:
“نعم… نعم، كنت أُعلِّم الأطفال…”
قاطعه الصوت بنبرةٍ أشد وقعًا من الجحيم ذاته:
“أكنت تُعلِّمهم أم كنت تسرق أحلامهم؟”
ضاقت الدنيا على جلال. حاول أن يجد مخرجًا، لكن الحقيقة كانت واضحة كالشمس التي لم تعد تشرق.
“انظر إلى ما اقترفت يداك، جلال البنداري.”
وفجأة، بدأ شريط حياته يمر أمامه، لكنه لم يكن ذكرياته كما رآها من قبل، بل كما عاشها ضحاياه.
الوجوه التي لن تُنسى
رأى ياسر، الطالب الفقير، الذي كان يحلم بأن يصبح طبيبًا. رآه يتوسل إليه كي لا يرسبه، لكن جلال لم يرَ فيه إلا رقمًا بلا قيمة. رآه يعود إلى بيته، وعيناه مملوءتان بالدموع، وأمه عند الباب، تنتظره بوجهٍ متهالك.
سمع صوتها، لم يكن مجرد صوت، بل طعنةً في أعماقه:
“أرجوك، إنه ذكي، لا تحطم مستقبله… ليس لدينا المال.”
لكن جلال، في ذلك اليوم، لم يكترث. أغلق الباب في وجهها، غير مبالٍ بدموعها، غير مدركٍ أن القدر سيغلق عليه أبواب الرحمة يومًا.
ثم رأى ليلى، الطالبة التي كانت تتفوق في دراستها، لكنه حطمها لأن نزواته الدنيئة كانت أقوى من ضميره. رآها وهي تخرج من المدرسة، تسير بخطواتٍ ثقيلة، تاركة خلفها أحلامها الممزقة.
رأى مئات الوجوه، كل منها كان يحمل ندبةً من ظلمه، وكل صرخةٍ لم يسمعها في الدنيا، عادت إليه الآن، كعاصفةٍ لا ترحم.
الشهود الذين لم يسكتوا
وقفوا أمامه، أولئك الذين دمر حياتهم، لم يعودوا طلابًا صغارًا، بل شهودًا أقوى من أي محامٍ حاول أن يتشبث به في الدنيا.
“سرق مني حلمي!” صرخ ياسر، الذي لم يصبح طبيبًا، بل عاملًا في مصنع، يكافح فقط ليعيش.
“هددني بالطرد!” صاحت ليلى، التي لم تعد طالبة، بل مجرد اسمٍ محذوف من قائمة المتفوقين.
“ظلمه دفعني إلى الانتحار!” قال صوتٌ لم يتعرف عليه جلال، لكنه شعر أن وزنه ثقيلٌ على قلبه.
كان يحاول أن ينكر، لكن الحقيقة كانت أقوى من كل خداعٍ مارسه في حياته.
الحكم الذي لا رجعة فيه
ارتفع الصوت المهيب مرة أخرى:
“جلال البنداري، لقد حكمنا عليك بالعذاب. اذهب إلى النار، فأنت من أهلها.”
وفي اللحظة التالية، انشقت الأرض تحت قدميه، وانبعثت منها نيرانٌ سوداء، تزمجر كوحوشٍ جائعة. ومن بين الدخان، ظهرت كلابٌ سوداء ضخمة، لم تكن عادية، بل كانت كائناتٍ من الجحيم ذاته. عيونها تتوهج كالجمر، وأنيابها تقطر سُمًّا وحقدًا.
حاول أن يهرب، لكن قواه خارت. حاول أن يصرخ، لكن صوته تلاشى.
ثم انقضّت عليه.
شعر بأنيابها تغرز في لحمه، تمزقه إربًا، لكنه لم يمت، بل كان يتألم، ويتكرر الألم كلما ظن أنه انتهى. كان العذاب مستمرًا، بلا نهاية، بلا مهرب.
وفي وسط النيران، وسط الصرخات التي ملأت الفراغ الأسود، لم يكن هناك سوى صوتٍ واحدٍ يردد، صوتٍ كان يومًا متغطرسًا، لكنه الآن ليس سوى ظلٍّ محطَّم:
“لو كنت أعلم… لو كنت أعلم…”
لكن الوقت قد فات، والجحيم لا يعرف الندم.
النهاية التي تستحقها الظلال
وهكذا انتهى جلال البنداري، الذي كان في الدنيا معلمًا فاسدًا، وتحول في الآخرة إلى مثالٍ حيٍّ للعبرة والعقاب.
وفي النهاية، لا يضيع حقٌّ عند من لا يغفل ولا ينام، والظلم وإن طال، لا بد أن يجد قاضيه.
لأن العدالة الإلهية… لا تغيب.