
بقلم الدكتور ناصر الجندي
هناك أيامٌ في التاريخ تحمل بين طياتها أسرارًا إلهية، وكأنها لحظاتٌ اصطفاها الله ليكون فيها مددُه ونصرُه قريبًا لمن يخلصون في الجهاد والسعي. والعاشر من رمضان هو واحدٌ من تلك الأيام التي تجلت فيها نفحات الله، سواء في فجر الإسلام خلال غزوة بدر وفتح مكة، أو في العصر الحديث عندما خاضت الجيوش العربية معركة العزة والكرامة في حرب أكتوبر 1973، التي لا تزال تُذكر كأحد أعظم الانتصارات في التاريخ العسكري الحديث.
1. العاشر من رمضان: يومٌ تنزلت فيه البركات والنصر
في القرآن الكريم، يُذكر شهر رمضان بأنه شهر البركات والتأييد الإلهي، وهو الشهر الذي نزل فيه القرآن، وكان شاهدًا على لحظاتٍ عظيمة من النصر للمؤمنين. في العاشر من رمضان تحديدًا، تجلت قدرة الله في نصرة عباده، وكأن هذا اليوم يحمل وعدًا إلهيًا بالنصر لمن يُجاهد بإخلاص، سواء في الماضي أو الحاضر.
في غزوة بدر (2 هـ)، لم يكن لدى المسلمين أي أمل مادي في النصر، ولكن الله أرسل ملائكته لتقاتل معهم، كما جاء في قوله تعالى:
“إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ” (الأنفال: 9).
وفي فتح مكة (8 هـ)، كان النصر هادئًا بلا قتال، وكأن الله أراد أن يُظهر للعالم كيف يكون الفتح الحقيقي: ليس بحد السيف، ولكن بالرحمة والعفو.
لكن العاشر من رمضان لم يتوقف عند صدر الإسلام، بل امتد ليشهد واحدةً من أعظم لحظات التاريخ الحديث، حين سطر الجيش المصري والعربي ملحمة نادرة في حرب أكتوبر 1973.
2. العاشر من رمضان 1393 هـ (6 أكتوبر 1973): حين فتح الله أبواب النصر
لم يكن يوم العاشر من رمضان عام 1393 هـ / 6 أكتوبر 1973 يومًا عاديًا، بل كان يومًا حمل فيه جنود مصر وسوريا أحلام الأمة على أكتافهم، وساروا نحو المستحيل بإيمان لا يتزعزع.
في هذا اليوم، وبينما كانت الأرض تغلي تحت أقدام المحتلين، كان الجنود المسلمون صائمين، يتلون القرآن في خنادقهم، ويصلّون في مواقعهم، وهم يعلمون أن المعركة ليست مجرد حربٍ عسكرية، بل امتحانٌ للكرامة والصبر.
نفحات الله تتجلى في المعركة
1. التوقيت الإلهي
اختيار العاشر من رمضان لم يكن مجرد مصادفة، بل كان توقيتًا محكمًا، حيث كان الجنود صائمين، وروحانيات الشهر الفضيل تغمرهم، مما زادهم قوةً نفسية وعزيمةً لا تلين.
من المعروف أن الحروب تحتاج إلى طاقة جسدية، لكن الصيام منح الجنود طاقةً معنوية استثنائية، وكأن الله مدّهم بقوة خفية تتجاوز حدود الجسد.
2. المدد الإلهي في لحظة العبور
عندما انطلقت القوات المصرية لعبور قناة السويس، واجهت واحدًا من أعقد وأقوى التحصينات العسكرية في التاريخ: “خط بارليف”، الذي كان الإسرائيليون يعتقدون أنه لا يُهدم إلا بقنبلة نووية.
لكن الله ألهم المهندسين العسكريين المصريين بفكرة عبقرية: استخدام خراطيم المياه القوية لفتح ثغرات في الساتر الترابي، وهو حل بسيط لكنه قلب موازين الحرب.
خلال ست ساعات فقط، كانت القوات المصرية قد عبرت القناة، في وقتٍ كان العدو يعتقد أن أي محاولة لعبورها ستستغرق أيامًا إن لم تكن أسابيع.
3. المعنويات الإيمانية: الصيام والسلاح الروحي
بينما كانت الطائرات المصرية تحلق، كانت تكبيرات الله أكبر تملأ الأجواء، مما بثّ الرعب في قلوب العدو.
كثيرٌ من الجنود ذكروا أنهم رأوا في لحظات القتال ما يُشبه المدد الإلهي، حيث كانت الأقدار تعمل لصالحهم بطريقة لا تفسير منطقي لها إلا بأنها تأييدٌ من الله.
حتى الجنود الإسرائيليون اعترفوا لاحقًا بأنهم شعروا بأنهم يقاتلون ضد قوة غير مرئية، وكأن هناك يدًا خفية تحمي الجنود المصريين.
لحظة النصر: عندما انكسرت أسطورة “الجيش الذي لا يُهزم”
قبل العاشر من رمضان، كان العالم يعتقد أن إسرائيل قوة لا تُهزم، وأن جيشها لا يمكن أن يُكسر. لكن في هذا اليوم، تغيّر كل شيء.
تحطمت خطط العدو، وسقطت نظريات التفوق العسكري الإسرائيلي، وأثبتت حرب أكتوبر أن الإيمان، حين يقترن بالتخطيط والإعداد الجيد، قادرٌ على قلب موازين القوى.
استعادت الأمة العربية كرامتها، وأصبح العاشر من رمضان رمزًا للأمل، حيث تعلّم الجميع أن المستحيل ليس سوى فكرة زائفة، وأن النصر يأتي لمن يصبر ويؤمن.
3. العاشر من رمضان: درسٌ للأجيال
العاشر من رمضان لم يكن مجرد يوم انتصار، بل كان درسًا خالدًا بأن الله لا يخذل من يتوكل عليه حق التوكل.
هو يوم يُذكرنا بأن الانتصارات الكبرى تبدأ من القلوب، من الإيمان، من الصبر، ومن الثقة بأن الله يمهل لكنه لا يُهمل.
هو يوم يخبرنا أن النصر ليس دائمًا بالسلاح الأقوى، ولكن بالعزيمة الأقوى، وبالإرادة التي لا تعرف الهزيمة.
اليوم، بينما يمر العاشر من رمضان كل عام، علينا أن نستعيد روح ذلك اليوم، ليس فقط في ساحات القتال، بل في معاركنا اليومية، سواء كانت معركة لتحقيق حلم، أو لمواجهة صعوبة، أو حتى لكسر حاجز الخوف بداخلنا.
العاشر من رمضان هو يومٌ تجلّت فيه نفحات الله، وما زالت تتجلى لكل من يسير في طريق الصبر والكفاح.