
بقلم الدكتور ناصر الجندي
من هو سلطان الأولياء؟
في كل عصر يظهر رجالٌ اصطفاهم الله بكراماتٍ تثير الدهشة، وتُبقي أثرهم خالدًا في القلوب والعقول. لكن عندما نسمع لقب “سلطان الأولياء“، فإن الاسم الذي يتبادر إلى الأذهان فورًا هو الإمام عبد القادر الجيلاني، ذلك الرجل الذي جمع بين العلم والتصوف، الزهد والإصلاح، الحكمة والكرامة.
إنه الإمام الذي تتناقل الأجيال قصصه العجيبة، ويتحدث الناس عن قدراته الفائقة التي بدت وكأنها اختراقٌ لقوانين الطبيعة. لكن، هل كانت كل تلك الكرامات حقيقية؟ وهل كان الإمام الجيلاني مجرد “صاحب خوارق”، أم أنه كان أكبر من ذلك بكثير؟
في هذا المقال، سنغوص في حياة الإمام الجيلاني وكراماته، وسنحاول أن نميز بين الحقائق والمبالغات، حتى نرى صورته الحقيقية كما كانت، بلا غلوّ ولا إنكار.
استعدّ لرحلةٍ مشوقةٍ إلى عالم التصوف والزهد، حيث يمتزج الإيمان بالمعجزات، والتقوى بالكرامات!
أولًا: من هو الإمام عبد القادر الجيلاني؟
1. النسب والنشأة
وُلد الإمام عبد القادر بن موسى الجيلاني عام 470هـ (1077م) في مدينة جيلان (إيران حاليًا)، وسط عائلةٍ اشتهرت بالصلاح والتقوى. يُقال إن نسبه يعود إلى الإمام الحسن بن علي رضي الله عنه، وهذا ما زاد من محبته في قلوب الناس.
عندما بلغ الثامنة عشرة، انتقل إلى بغداد، التي كانت في ذلك الوقت مركزًا للعلم والثقافة، ليتلقى العلوم على يد كبار العلماء. درس الفقه، الحديث، التفسير، علم الكلام، لكنه لم يكن مجرد طالب علمٍ عادي، فقد جمع بين الفقه والتصوف، وكان يسعى إلى تصحيح التصوف من الانحرافات، فكان يدمج العقل مع الروحانية، والشريعة مع الزهد.
2. الإمام الذي جمع بين العلم والتصوف
لم يكن الإمام الجيلاني مجرد زاهدٍ ينعزل عن الناس في العبادة، بل كان عالِمًا مُصلحًا، يخاطب السلاطين والفقهاء والفقراء بنفس الروح، ويسعى لنشر العدل والإصلاح في المجتمع.
❖ كان يقول:
“إذا رأيتم الصوفي يطير في الهواء، فلا تغتروا به حتى تروا وقوفه عند حدود الشرع!”
وهذا يدل على أن الكرامات، مهما كانت عظيمة، لا تعني شيئًا إن لم يكن صاحبها متمسكًا بالشريعة.
ثانيًا: كرامات الإمام عبد القادر الجيلاني
يتناقل الناس مئات القصص عن كرامات الإمام الجيلاني، بعضها ثابتٌ وصحيح، وبعضها دخلت فيه المبالغات والأساطير. لكن المؤكد أن الإمام كان رجلًا ذا بصيرةٍ وإيمانٍ عميق، وكان الله يُكرمه بأمورٍ خارقةٍ للعادة.
1. كرامة إنقاذ السفينة من الغرق
يُروى أن أحد تلاميذه كان في رحلةٍ بحريةٍ، فهبت عاصفةٌ شديدةٌ كادت تغرق السفينة. في تلك اللحظة، صرخ التلميذ قائلًا:
“يا سيدي عبد القادر، أغثنا!”
وبعد نجاتهم، عاد التلميذ إلى بغداد، فوجد الإمام يقول في مجلسه:
“كاد فلانٌ أن يغرق، فدعاني في لحظة ضيقه، فسألت الله أن ينجيه!”
سواء كانت هذه القصة صحيحة أم لا، إلا أنها تدل على إيمان الناس بقوة دعائه وتقواه.
2. رفض المال الحرام
كان الإمام الجيلاني زاهدًا لا يقبل المال المشبوه، ويروى أنه جاءه سلطان بغداد محملًا بالذهب والهدايا، فأعرض عنه الإمام، وقال:
“ما لي وللمال الحرام؟!”
وهذا يُظهر زهده الحقيقي، فهو لم يكن يبحث عن الجاه أو المال، بل كان همه نشر الدين وإصلاح القلوب.
3. قصة الصوت الذي ادّعى أنه من الله!
يروى أن الإمام كان في خلوته، فسمع صوتًا يقول:
“يا عبدي عبد القادر، لقد رفعت عنك التكاليف، وأحللت لك ما حرّمتُه على غيرك!”
لكن الإمام، بعلمه العميق، فهم أنها حيلةٌ من الشيطان، فقال بصوتٍ عالٍ:
“اخْسَأْ يَا لَعِين، لستُ بحاجة إلى رخصةٍ لا تُعطى إلا للأنبياء!”
وهذه القصة -إن صحت- تدل على حكمته وتمسكه بالشريعة، إذ لم يسمح للغرور أن يخدعه.
4. علمه الغيبي بحال تلاميذه
كان الإمام الجيلاني مشهورًا بقدرته على إخبار تلاميذه عن أشياء لم تحدث بعد، مما جعل البعض يعتقد أن لديه علمًا لدنيًا وهبةً خاصة من الله.
لكن الإمام نفسه كان يُحذّر من المبالغة في هذه الأمور، ويؤكد أن أي شيء يحدث له هو فضلٌ من الله وليس من قوته الشخصية.
ثالثًا: بين الكرامة والخرافة.. هل كانت كل القصص صحيحة؟
ليس كل ما يُروى عن الإمام الجيلاني صحيحًا، فهناك قصصٌ دخلت فيها المبالغات، خاصة بعد وفاته.
كيف نعرف الكرامة الحقيقية؟
✔ أن تكون موافقةً للشرع.
✔ أن تحدث لرجلٍ صالحٍ متقٍ.
✔ ألا يستخدمها الولي للدعاية أو جذب الناس لشخصه.
لكن أعظم كرامة للإمام الجيلاني لم تكن “الخوارق”، بل كانت كرامة العلم، والزهد، والإصلاح.
رابعًا: أثر الإمام عبد القادر الجيلاني في التاريخ
✔ كان أحد أعظم الإصلاحيين في التصوف، حيث أعاد الربط بين الزهد والفقه.
✔ أسس الطريقة القادرية، التي أصبحت واحدة من أشهر الطرق الصوفية.
✔ أثر في أجيالٍ من العلماء والمتصوفة، وكان مصدر إلهامٍ للملايين.
حتى يومنا هذا، لا يزال الإمام الجيلاني رمزًا للولاية الصادقة، ويُحبه الملايين، سواء بسبب علمه أو كراماته أو زهده.
أعظم كرامة!
كل هذه القصص عن الإمام عبد القادر الجيلاني تثير الإعجاب، لكنها ليست أهم ما في شخصيته. بل كانت أعظم كراماته أنه ظل ثابتًا على الحق، لم يُفتن بالدنيا، ولم يغتر بكراماته، بل بقي عالمًا متواضعًا، وزاهدًا حقيقيًا.
إن كرامة الصدق مع الله أعظم من أي قدرة على المشي فوق الماء، وكرامة الثبات على الشريعة أفضل من أي معجزة!
رحلتنا القادمة: الإمام أحمد الرفاعي.. صاحب اليد الطولى في الكرامات!
في المقال القادم، سنتحدث عن الإمام أحمد الرفاعي، الرجل الذي اشتهر بكراماته العجيبة، وقصصه التي لا تزال تُروى حتى اليوم! هل كان كل ذلك صحيحًا؟ وما الفرق بينه وبين الإمام الجيلاني؟ تابعونا في سلسلة “كرامات الأولياء: أسرار، دلائل، وبركات”!