
بقلم الدكتور ناصر الجندي
حين يضيء النور في أرض الكنانة
تحت سماء مصر، حيث تتعانق الروحانية مع التاريخ، بزغ نور أحد أعظم الأولياء الصالحين، الإمام إبراهيم الدسوقي، الذي ملأ أرض الكنانة بكراماته، وعلمه، وروحانيته العميقة. لم يكن مجرد عالم أو زاهد، بل كان بحرًا من الأسرار، ومصباحًا هاديًا للسالكين في درب الله.
قصته ليست مجرد سيرة وليٍّ صالح، بل رحلة إيمانية ملهمة، حيث تجلّت معاني الولاية في أبهى صورها. فمن هو هذا الإمام الجليل؟ وما هي كراماته التي جعلته من رموز التصوف الكبرى؟ وكيف استمر نوره مشعًا عبر القرون؟
أولًا: من هو الإمام إبراهيم الدسوقي؟
الإمام إبراهيم بن عبد العزيز الدسوقي، وُلد في عام 653هـ (1255م) بمدينة دسوق، التي ستصبح فيما بعد مركزًا روحيًا يقصده المريدون من كل حدب وصوب. نشأ في بيئة صوفية نقية، حيث بدأ تعلم العلوم الشرعية منذ نعومة أظفاره، ثم انطلق في طريق التصوف تحت إشراف كبار مشايخ عصره.
لم يكن التصوف عنده مجرد عبادات خاصة أو خلوات روحية، بل كان طريقًا للحياة، يجمع بين العلم، والتقوى، وخدمة الناس. لم يطلب شهرة أو منزلة، بل سعى إلى تربية القلوب على محبة الله والسير في طريقه.
أسّس الطريقة الدسوقية، وهي طريقة صوفية جمعت بين التزكية الروحية، والسلوك الأخلاقي، والعمل النافع للناس.
ثانيًا: كرامات الإمام إبراهيم الدسوقي.. إشراقات من عالم الغيب
1. حديثه مع الحيوانات والطير
كان الإمام الدسوقي معروفًا بتواصله العجيب مع الطيور والحيوانات، وقد روي عنه أنه كان يخاطبها فتطيعه كما لو أنها تفهم لغته.
ذات يوم، كان يسير في الصحراء، فرأى أفعى تقترب من رجلٍ نائم. فقال لها:
“ابتعدي عنه، فإنه لم يؤذكِ، فلا تؤذيه”.
فتوقفت الأفعى في الحال، وكأنها أدركت أمره، ثم انصرفت بعيدًا! كانت هذه إشارةً إلى عمق ولايته، واتصاله بالعالم الروحي بطرق تفوق الفهم العادي.
2. شفاء المرضى ببركة دعائه
جاءه رجلٌ أعمى، وطلب منه الدعاء. فما كان من الإمام إلا أن مسح بيده المباركة على عينيه، ودعا الله له، فانفتحت عيناه ورأى النور من جديد.
لم يكن ذلك مجرد كرامة، بل رسالة روحية عميقة: إن من يرى الله بقلبه، يفتح الله له بصيرته، ويريه النور في كل شيء.
3. المشي على الماء.. دليل التوكل المطلق
ذات يوم، كان بعض تلاميذه يشككون في الكرامات، فقال لهم:
“إن الإيمان الحقيقي يرفع الإنسان فوق الماديات”.
ثم توجه إلى نهر النيل، ونطق باسم الله، ومشى على الماء كما يمشي على اليابسة، حتى وصل إلى الضفة الأخرى.
هنا، لم تكن المعجزة مجرد إظهارٍ للخوارق، بل رسالة قوية بأن الإيمان العميق يجعل المستحيل ممكنًا.
4. تهدئة العواصف وإنقاذ السفن
في إحدى الليالي العاصفة، كادت سفينة في النيل أن تنقلب بسبب الرياح العاتية، فرفع الإمام يده نحو السماء، وقال:
“يا الله، ثبّت سفينتهم، وارزقهم السلامة”.
وفي لحظة، هدأت العاصفة، وعادت السفينة إلى استقرارها، وسط دهشة البحارة الذين رأوا في ذلك كرامة من كرامات أولياء الله الصالحين.
ثالثًا: الإمام الدسوقي ومعاني الولاية الحقيقية
1. الكرامة الحقيقية ليست في الخوارق، بل في الاستقامة
كان الإمام يقول دائمًا:
“من ظنّ أن الولاية في المشي على الماء، فقد فاته المعنى الحقيقي”.
الولاية ليست مظاهر، بل صدق مع الله، وعبادة خالصة، وأخلاق سامية.
2. التواضع أساس العظمة
على الرغم من كراماته، كان يقول:
“أحبّ الناس إليّ، من كان أقربهم إلى الله، وليس من شهدوا لي بالكرامات”.
كان يخدم الفقراء، ويساعد المحتاجين، ويرى أن الوليّ الحق هو من يكون نافعًا للناس.
3. التصوف ليس عزلة، بل إصلاح للمجتمع
لم يكن الإمام الدسوقي يعيش منعزلًا عن الناس، بل كان عالمًا يعلّمهم أمور دينهم، ويزرع فيهم حب الله والخلق.
كان يرى أن التصوف ليس لبس المرقعات، بل صفاء القلب، والصدق، والعمل الصالح.
رابعًا: دروس مستفادة من حياة الإمام الدسوقي
1. جوهر التصوف هو تهذيب النفس
التصوف الحقيقي ليس البحث عن الخوارق، بل عن نقاء الروح.
2. القوة في اللين والرحمة
كان الإمام رمزًا للرحمة والتواضع، لذلك أحبه الناس، وتوافدوا عليه من كل مكان.
3. العبادة الحقيقية في خدمة الخلق
كان يرى أن أفضل العبادات هي أن تنفع الناس، وتترك أثرًا طيبًا في حياتهم.
نور لا ينطفئ
الإمام إبراهيم الدسوقي لم يكن مجرد رجلٍ صالح، بل كان مدرسة في الإيمان، والتوكل، والخدمة الصادقة.
ظلّ ضريحه في دسوق مزارًا يملأه النور، ويقصده المحبون من كل مكان، ليقتبسوا من روحه الطاهرة، وليتعلموا أن الولاية ليست في الخوارق، بل في حب الله وخدمة عباده.
الرحلة القادمة: شيخ العرب وصاحب الأسرار
في المقال القادم من سلسلة “كرامات الأولياء”، سنتحدث عن الإمام البدوي، الرجل الذي لُقّب بـ”شيخ العرب”، وصاحب الأسرار العجيبة، الذي ترك أثرًا لا يُمحى في التصوف الإسلامي.
ترقبوا قصصًا مدهشة عن حياته، وعن الكرامات التي أذهلت الناس، وعن أسراره التي جعلته أحد أعظم الأولياء.