
بقلم الدكتور ناصر الجندي
بين الحقيقة والوهم
لطالما سحر التصوف قلوب الناس، فتجدهم يتحدثون عن الأولياء وأحوالهم وكراماتهم، بل يعتقد البعض أن كل متصوف هو وليٌّ لله، وأن كل وليٍّ لا بد أن تكون له كرامات خارقة. لكن، هل هذا صحيح؟ وهل التصوف طريقٌ مباشرٌ إلى الولاية؟ وهل الكرامات دليلٌ قاطعٌ على صلاح العبد؟
بين التصوف الحقيقي والمدّعى، وبين الولاية الحقيقية والوهمية، وبين الكرامات الربانية والخدع الزائفة، نجد أسئلة كثيرة تحتاج إلى إجابات واضحة. في هذا المقال، سنحاول فك الارتباط بين التصوف والكرامات، ونتأمل في المعنى العميق للولاية، ونكتشف كيف يميز العقل بين الولي الصادق والمدّعي.
ما هو التصوف؟ جوهره وروحه الحقيقية
التصوف في جوهره طريقٌ روحي، يسعى فيه السالك إلى تهذيب نفسه، وتنقية قلبه من الأهواء، والارتقاء في درجات الإيمان. فهو ليس مجرد لباسٍ معين، أو ترديد أذكار، أو انعزالٍ عن الناس، بل هو رحلة داخلية في أعماق الروح، هدفها أن يكون الإنسان قريبًا من الله في كل لحظة.
وقد عرّف الإمام الجنيد التصوف بقوله:
“التصوف هو تصفية القلب عن مخالفة الحق، وهو الوقوف مع الآداب الشرعية ظاهرًا وباطنًا، وهو الأخذ بما هو أولى على الدوام.”
وهذا يعني أن التصوف ليس هروبًا من الدنيا، بل مواجهة حقيقية مع النفس، وجهاد مستمر ضد الغرور والطمع والشهوات.
لكن، هل مجرد اتباع التصوف يجعل الإنسان وليًّا؟
الولاية: مقامٌ لا يُنال بالكلام
الولاية ليست لقبًا يُمنح، ولا حالةً يدّعيها الإنسان، بل هي مقامٌ روحي عظيم، يصل إليه العبد بالصدق والإخلاص والطاعة الدائمة.
وقد حدد القرآن الكريم شروط الولاية في آيةٍ واحدة:
“أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ، الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ” (يونس: 62-63).
إذًا، الولي هو المؤمن التقي، وليس كل من ادّعى التصوف صار وليًّا، وليس كل من اشتهر بالكرامات كان صالحًا. فالتقوى الحقيقية هي المعيار الوحيد للولاية، لا الألقاب ولا الادعاءات.
لكن، ماذا عن الكرامات؟ هل هي دليلٌ على الولاية؟
الكرامات: بين الحقيقة والوهم
الكرامة هي حدثٌ خارق للعادة، يمنحه الله لعبده المؤمن، وهي ليست معجزةً خاصة بالأنبياء، بل هي كرامة يُظهرها الله على أيدي أوليائه الصالحين.
لكن هنا يأتي السؤال المهم: هل كل وليٍّ يجب أن تكون له كرامات؟
الإجابة الصادمة: لا.
ليس كل ولي تظهر عليه كرامات ظاهرة، بل قد يكون وليًّا مستورًا، يعيش بين الناس دون أن يعرفه أحد، وربما مات ولم يُروَ عنه شيء. فالله يكرم أولياءه بطرق مختلفة، قد تكون في طمأنينة القلب، أو في استجابة الدعاء، أو في حسن الخاتمة.
قال الإمام الشافعي:
“إذا رأيتم الرجل يطير في الهواء ويمشي على الماء، فلا تصدقوه حتى تعرضوا أمره على الكتاب والسنة.”
بمعنى أن الكرامة ليست دليلًا قاطعًا على صلاح العبد، فقد يكون الرجل فاسدًا لكنه يمتلك قدرات غريبة، وقد يكون الرجل صالحًا لكنه لا يملك أي كرامة خارقة.
أنواع الكرامات: ليست كلها ظاهرة
يمكن تقسيم الكرامات إلى نوعين رئيسيين:
1. كرامات حسية ملموسة: مثل شفاء المرضى بالدعاء، أو الإلهام بمعرفة أمور غيبية جزئية، أو النجاة من الأعداء بطريقة خارقة، كما حدث مع الحسن البصري عندما اختبأ من الحجاج فلم يره الجنود، أو مع الإمام أحمد بن حنبل حين ثبت في محنته رغم التعذيب.
2. كرامات روحية خفية: وهي أعظم وأهم، وتشمل التوفيق في العبادة، وحسن الخلق، والثبات في الشدائد، والنقاء القلبي، وهذه هي الكرامات الحقيقية التي تدوم مع العبد حتى آخر لحظة في حياته.
لكن، كيف نفرق بين الكرامة الحقيقية والخدعة المدّعاة؟
التصوف الحقيقي والتصوف الزائف
مثل كل طريق ديني، لم يَسلم التصوف من التشويه، فظهر مدّعون كثر، جعلوا التصوف وسيلةً لجمع الأموال، وادّعوا امتلاك الكرامات لجذب المريدين، وصار بعضهم يروج لخرافات وأساطير ليُضفي على نفسه هالةً من القداسة.
وهذا جعل الناس في حيرة: كيف نعرف الولي الحقيقي من المدّعي؟
هناك ميزان واضح يمكننا الاحتكام إليه:
1. الاستقامة على الدين: فالولي الحقيقي لا يخالف القرآن والسنة، ولا يدعو إلى البدع.
2. التواضع وعدم حب الشهرة: لا يسعى وراء الأضواء، ولا يفرض نفسه على الناس.
3. الإخلاص في العبادة: تجده قريبًا من الله، بعيدًا عن الأهواء والمصالح الشخصية.
4. عدم التباهي بالكرامات: الولي الصادق يخفي كراماته ولا يستخدمها لجذب المريدين.
أما من يدّعي الكرامات علنًا، ويتفاخر بها، ويطلب المال مقابل “البركة”، فاعلم أنه بعيدٌ عن الولاية الحقيقية.
التصوف رحلة قلبية وليست استعراضًا للخوارق
التصوف الحقيقي هو رحلةٌ إلى الله، طريقٌ يسير فيه الإنسان ليطهّر قلبه، ويرتقي بروحه، ويتخلق بأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم. لكنه ليس طريقًا إلى الشهرة، ولا وسيلةً لجمع المريدين، ولا طريقًا مضمونًا إلى الولاية.
الكرامات إن حدثت فهي فضلٌ من الله، لكنها ليست مقياسًا للولاية، وليس كل من ظهرت له خوارق كان وليًّا. والولي الحق هو من عرف الله بقلبه، وسار في طريقه بصدق، واستقام على طاعته دون أن يسعى لإثبات شيء للناس.
في النهاية، الولاية ليست بالمعجزات، بل بالتقوى، والكرامات ليست بالضروري أن تكون خارقة، فقد تكون كرامتك الحقيقية هي قلبك الصافي، وسكينتك الدائمة، ورضاك عن الله في كل حال.
وفي المقال القادم، سنخوض رحلة جديدة في عالم الأدب والشعر، لنرى كيف تناول الشعراء والكتّاب كرامات الأولياء في قصائدهم ونصوصهم، في مقالٍ بعنوان: “كرامات الأولياء في الأدب والشعر الصوفي.” كيف جسّد الأدباء هذه التجارب الروحية؟ وهل بالغوا في تصوير الكرامات؟ تابعونا في هذه الرحلة الشيقة!