مقال

قصة قصيرة بقلم الدكتور ناصر الجندي بعنوان “سقوط معلم” 

    في مدينة صغيرة بإحدى محافظات الدلتا المصرية، حيث تتمازج رائحة الأرض المبللة برائحة النخيل، وحيث تتعالى نداءات الباعة في الأسواق الصغيرة، عاش كمال أفندي، معلم اللغة العربية الذي حمل طربوشه الأحمر فوق رأسه كما يحمل الجندي رتبته العسكرية. كان رجلاً ذا لسان فصيح وملامح توحي بالثقة، لكن خلف هذا المظهر الأنيق كان يختبئ ذئب ينهش في جسد الأخلاق.

البداية المخادعة
عُيّن كمال أفندي مدرسًا في مدرسة “النور للبنين”، إحدى المدارس العريقة التي كان لها شأن كبير في العهد الملكي. كان مدير المدرسة، حسن بك سليمان، رجلاً في أواخر الستينيات، معروفًا بهدوئه وحرصه على تجنب المشكلات. لكنه كان أيضًا ضعيف الشخصية، يخشى المواجهة ويفضل دفن المشكلات تحت السطح حفاظًا على استقراره الشخصي ومكانته الاجتماعية.

استغل كمال أفندي هذه الصفات، وحوّل المدرسة تدريجيًا إلى ساحة لنفوذه. كان دائمًا ما يُلقي خطبًا رنانة عن الأخلاق والقيم، لكنه في الخفاء كان يُمارس أعمالًا مشبوهة، مستغلًا الطلاب الفقراء والعائلات البسيطة.

شبكة الفساد
بدأ الأمر حين لاحظت أم محمود، بائعة الخبز في السوق، أن ابنها يعود إلى المنزل بأموال لا تتناسب مع وضعهم المادي. كان محمود، الطالب النجيب، قد وقع في شباك كمال أفندي الذي أغراه بوعود النجاح والهدايا الصغيرة، ليجعله وسيطًا في بعض أعماله.

وفي الأحياء القديمة للمدينة، بدأ الناس يتهامسون عن تحركات كمال أفندي المشبوهة. لكنه كان دائم الحذر، يجيد إخفاء نواياه خلف مظهره المثالي.

عائشة، معلمة الرياضيات الشابة، كانت الوحيدة التي تشك فيه بجدية. حاولت التحدث إلى حسن بك سليمان عدة مرات، لكنها اصطدمت بجدار من التجاهل. كان المدير يخشى أن تؤدي مواجهة كمال أفندي إلى فضيحة تمس سمعة المدرسة، فاختار أن يغض الطرف عن كل الشكاوى.

الخيط الأول
لكن القدر كان يُعد لكمال أفندي مفاجأة. سعيد، الطالب اليتيم الذي كان يبحث عن أمل جديد في حياته، كان الفتى الذي قلب الطاولة عليه. لاحظ سعيد أن كمال أفندي يحاول استغلاله كما استغل غيره، فقرر التظاهر بالقبول ليجمع الأدلة ضده.

في إحدى الليالي، ذهب سعيد إلى قسم الشرطة المحلي، حيث التقى يوسف بك، الضابط الشاب المعروف بصرامته وعدالته. بدأ يوسف بك تحقيقًا سريًا، وجمع أدلة تُدين كمال أفندي، من وثائق مزورة إلى شهود أكدوا تورطه في أنشطة غير مشروعة.

اللحظة الحاسمة
في صباح مشمس من شهر أبريل، وبينما كانت المدرسة تستعد لحفل تكريم أحد المتفوقين بحضور شخصيات بارزة من المحافظة، اقتحم رجال الشرطة المدرسة بقيادة يوسف بك.

كان كمال أفندي يقف في ساحة المدرسة، يُلقي كلمة عن “الصدق وأهمية النزاهة”، حين دهمه رجال الشرطة. تجمد الحاضرون في أماكنهم، بينما تقدمت الشرطة نحوه وألقوا القبض عليه أمام الجميع.

وقف حسن بك سليمان عاجزًا، يشاهد ما يحدث دون أن ينطق بكلمة. كان يعلم أن تستره على أفعال كمال أفندي سيجعل منه شريكًا في الجريمة، ولم يستطع مواجهة أعين الحاضرين الذين حملته مسؤولية ما جرى.

المحاكمة والنهاية
في محكمة المدينة الكبرى، كان المشهد أشبه بمسرحية درامية. ظهرت وثائق مزورة، وشهادات طلاب وأهالٍ، ومراسلات تُدين كمال أفندي. أما حسن بك سليمان، فقد وُجهت إليه تهمة الإهمال والتستر، واعترف بضعفه وخوفه من الفضيحة.

حُكم على كمال أفندي بالسجن عشر سنوات مع الأشغال الشاقة، بينما تم فصل حسن بك سليمان من منصبه.

الخاتمة
أصبحت قصة كمال أفندي وحسن بك سليمان عبرة لأهل المدينة. في المدرسة، أُعيد تنظيم الإدارة، وعُلقت لافتة كُتب عليها: “من يغض الطرف عن الفساد، يصبح شريكًا فيه.”

أما سعيد، فقد واصل تعليمه، ليصبح محاميًا شابًا معروفًا بجرأته ودفاعه عن المظلومين، متعهدًا بأن يُكرس حياته لمحاربة الظلم والفساد، تمامًا كما فعل يوم قرر الإبلاغ عن كمال أفندي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى