
بقلم الدكتور ناصر الجندي
بين التصديق والإنكار
على مر العصور، كانت قصص الكرامات تشغل عقول الناس، فمنهم من يؤمن بها دون نقاش، ومنهم من يرفضها تمامًا باعتبارها مجرد خرافات، بينما يقف فريق ثالث مترددًا، يتساءل: هل هذه القصص حقيقية؟ وهل لها أساس في الإسلام؟
حين نستمع إلى حكايات عن وليّ صالح كان يسير على الماء، أو آخر شفاه الله من مرض مستعصٍ في لحظة، أو ثالث ظهرت له كرامة غريبة، قد نشعر بالدهشة وربما بالشك. لكن السؤال الأهم هنا ليس مجرد “هل هذا ممكن؟”، بل “هل تحدث القرآن الكريم والسنة النبوية عن هذه الأمور؟”
هذا ما سنكتشفه اليوم، عبر رحلة مشوّقة بين آيات القرآن وأحاديث النبي ﷺ، لنرى كيف تعامل الإسلام مع فكرة الكرامات، وما هي الشواهد الحقيقية التي تثبت وقوعها.
أولًا: كرامات الأولياء في القرآن الكريم
مريم عليها السلام: غذاء من السماء
تصوّر أنك تدخل غرفة شخص ما كل يوم، فتجده جالسًا متعبّدًا، وفي كل مرة تجد عنده طعامًا لم يأتِ به أحد، ولم يشترِه من السوق، ولا يعرف أحد كيف وصل إليه. هذا بالضبط ما حدث مع مريم بنت عمران، التي كان نبي الله زكريا عليه السلام يدخل عليها المحراب، فيجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف!
عندما سألها زكريا عليه السلام عن مصدر هذا الرزق، أجابت بكل بساطة ويقين:
> “هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ” (آل عمران: 37).
هذه الكرامة كانت علامة على طهر مريم وقربها من الله، فكان يرزقها بطرق خارقة للعادة، وهو ما جعل زكريا عليه السلام يزداد إيمانًا، بل ويدعو الله عندها بأن يرزقه ولدًا، فاستجاب الله له مباشرة!
أصحاب الكهف: سبات خارج حدود الزمن
لو دخلت غرفة ورأيت شخصًا نائمًا منذ ثلاثمائة سنة، لكنه لم يشيخ ولم تتعفن جثته، فكيف سيكون رد فعلك؟!
هذا ما حدث مع أصحاب الكهف، أولئك الفتية الذين فرّوا بدينهم من ظلم قومهم، فناموا في كهفهم 309 سنوات دون أن تتأثر أجسادهم، وكان الله يُقلّبهم يمينًا وشمالًا حتى لا تتعفن أجسادهم.
قال تعالى:
“وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ” (الكهف: 18).
هذه الكرامة لم تكن مجرد معجزة زمنية، بل كانت رسالة إلهية لكل العصور، بأن الله قادر على حفظ عباده كيفما شاء، وبأن الإيمان الصادق يُنجي صاحبه حتى لو نام لقرون!
رجل صالح يحضر عرش ملكة في لحظة!
حين أراد النبي سليمان عليه السلام أن يُحضر عرش ملكة سبأ من اليمن إلى قصره في فلسطين، تقدم أحد أتباعه الصالحين وقال بكل ثقة:
“أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ” (النمل: 40).
بلمح البصر، كان العرش أمام سليمان!
ما هذه القدرة العجيبة؟! وكيف استطاع هذا الرجل الصالح فعل ذلك؟!
إنها كرامة منحها الله له بسبب علمه الخاص الذي وهبه الله إياه، وهو ما يدل على أن الكرامات قد تكون علمًا، أو قدرة روحية، أو أمرًا خارقًا للعادة، ولكنها في النهاية منحة إلهية.
ثانيًا: كرامات الأولياء في السنة النبوية
عمر بن الخطاب: الصوت الذي قطع المسافات
تصوّر أن شخصًا يناديك من بلد آخر، وتسمع صوته بوضوح كما لو كان بجوارك! هذا ما حدث مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه، عندما كان يخطب في المدينة، وأثناء الخطبة نادى فجأة:
“يا سارية، الجبل! يا سارية، الجبل!”
كان “سارية” قائد جيش المسلمين في بلاد فارس، وكان على وشك الوقوع في كمين. فجأة، سمع نداء عمر رغم بُعد المسافة، ففهم التحذير وغير خطته العسكرية، ونجا الجيش من الهزيمة.
هذه الحادثة لم تكن مجرد مصادفة، بل كانت كرامة إلهية لعمر، حيث أسمع الله صوته لمسافة مستحيلة على البشر العاديين، وهو ما جعل الصحابة يشهدون له بصدق الإيمان.
خالد بن الوليد: السمّ الذي لم يقتله
في إحدى المعارك، تحدّى الصحابي الجليل خالد بن الوليد أعداءه عندما قالوا إنهم قادرون على قتله بالسمّ. أحضروا له كأسًا مملوءًا بالسم القاتل، فرفع خالد الكأس، وقال:
“بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء، وهو السميع العليم”
ثم شربه دفعة واحدة!
لحظات من الصمت سيطرت على الجميع… لم يحدث له شيء!
تلك كانت كرامة إلهية لحامل سيف الله المسلول، حيث حفظه الله من موت محقق، ليبقى قائدًا عظيمًا في ميادين الجهاد.
أم أيمن: شُربة ماء تكفي العمر كله
أم أيمن، المرأة التي كانت مربية النبي ﷺ، خرجت في الهجرة من مكة إلى المدينة في الصحراء القاحلة بلا ماء، حتى كادت تموت عطشًا. لكنها وجدت فجأة وعاءً من الماء لا تعلم مصدره، فشربت منه، ومنذ ذلك اليوم لم تشعر بالعطش أبدًا طوال حياتها!
هذه الكرامة كانت دليلًا على العناية الإلهية بعباد الله الصادقين، فكما رُزقت مريم بطعام من الغيب، رُزقت أم أيمن بماء يرويها للأبد!
دروس من الكرامات
كرامات الأولياء ليست قصصًا للترفيه، بل هي رسائل إيمانية لكل إنسان يسعى إلى القرب من الله. ومن أهم الدروس التي يمكننا تعلمها:
1. الله قادر على كل شيء، فلا تحدّ قدرة الله بتفكيرك المحدود.
2. الإيمان والتقوى هما مفتاح الكرامات، فكل من وردت عنهم كرامات كانوا من الصالحين الأتقياء.
3. الكرامة ليست شرطًا للولاية، فقد يكون الإنسان وليًا دون أن تظهر له كرامة واضحة.
4. ليست كل قصة تُنسب إلى الأولياء صحيحة، لذلك يجب أن نستند دائمًا إلى القرآن والسنة في فهم هذه الظواهر.
وفي المقال القادم، سنستكشف موضوعًا شيّقًا: “كرامات الأولياء وعلاقتها بالزهد والتقوى”، فهل كل وليّ صاحب كرامة زاهد في الدنيا؟ وهل التقوى وحدها تكفي لنيل الكرامات؟
انتظرونا في رحلة جديدة!