
بقلم الدكتور ناصر الجندي
رجلٌ سبق زمانه
حين يُذكر التصوف والولاية، يتبادر إلى الأذهان الإمام أحمد الرفاعي، ذلك الرجل الذي جمع بين العلم العميق، والزهد الصادق، والكرامات التي حيّرت العقول. لم يكن مجرد شيخ طريقة، بل كان حكيمًا، مرشدًا، ووليًا تربع على قلوب المحبين، حتى لقّبه أتباعه بـ “صاحب اليد الطولى في الكرامات”.
ما الذي ميّزه عن غيره؟ ولماذا ظلت كراماته تُروى على مرّ العصور؟ وكيف كان يرى التصوف والولاية؟
رحلةٌ تأخذنا إلى أعماق شخصية الإمام أحمد الرفاعي، حيث تتجلى الكرامات، ويظهر جوهر الولاية الحقيقية.
أولًا: من هو الإمام أحمد الرفاعي؟
وُلِد الإمام أحمد بن علي الرفاعي في العراق عام 512هـ، ونشأ في بيئة مليئة بالإيمان والعلم. منذ صغره، ظهرت عليه علامات النبوغ الروحي، فكان يميل إلى الزهد والعبادة، والتواضع وحب الخير.
درس الفقه، الحديث، والتفسير، لكنه لم يكن مجرد عالم، بل كان قلبه معلقًا بالله، ولسانه رطبًا بذكره، وروحه محلّقةً في ملكوته.
أسس الطريقة الرفاعية، التي عُرفت بالتسامح، والخدمة، وتربية القلوب. لم يكن يهتم بالمظاهر أو الألقاب، بل كان يعيش بين الناس، يطعم الفقراء، ويداوي المرضى، ويخفف آلام المحتاجين.
كان يؤمن أن الكرامة الحقيقية ليست في الخوارق، بل في تهذيب النفس، وخدمة الخلق، والإخلاص لله. ومع ذلك، فإن كراماته كانت نورًا يهدي الحائرين، ودليلًا على مكانته الروحية الرفيعة.
ثانيًا: كرامات الإمام الرفاعي.. حين تتجلى أسرار الولاية
1. كرامة تقبيل يد النبي ﷺ
من أشهر كراماته، التي تناقلها العلماء وأثبتوها بأسانيد صحيحة، أنه عندما زار المدينة المنورة، وقف أمام قبر النبي ﷺ وقال:
“في حالتي البعدية، أمدُّ يدي إلى قبرك الشريف، وفي حالتي القُربية، مدَّ يدك إليّ”.
فما كان إلا أن امتدت يد النبي ﷺ من قبره، ورفع الإمام يده فقبّلها، وسط دهشة الحاضرين الذين شهدوا واحدةً من أعظم كرامات الأولياء.
هذه الكرامة لم تكن مجرد حدثٍ خارق، بل كانت رسالةً لمن يشككون في ولاية الصالحين، ودليلًا على أن الله يكرم أحبابه بطرقٍ تعجز العقول عن إدراكها.
2. كرامة العصفور الميت
يحكى أن مجموعةً من الأطفال كانوا يلعبون بعصفورٍ ميت، فرآهم الإمام الرفاعي فتألم لذلك، فأخذ العصفور في يده وقال:
“يا حيُّ يا قيوم، أَرِنا من فضلك ما تُرِي عبادك الصالحين”.
وما هي إلا لحظات حتى عاد العصفور إلى الحياة، وطار أمام أعين الجميع.
لم تكن هذه الكرامة استعراضًا، بل كانت إشارةً إلى أن الله قادرٌ على إحياء القلوب كما يحيي الأجساد، وأن الأولياء هم أهل الرحمة، حتى مع الطيور والحيوانات.
3. كرامة تحويل السم إلى ماء
حاول أحد الحاقدين أن يقتل الإمام، فقدم له كأسًا مملوءًا بالسمّ، وعندما شربه الإمام، التفت إليه وقال:
“بسم الله، الذي جعل النار بردًا وسلامًا على إبراهيم”.
ثم نفث في الكأس، فإذا بالسمّ يتحول إلى ماء زلال، فارتعد الرجل وانهار، وأعلن توبته أمام الجميع.
هذه الحادثة أثبتت أن الأولياء في حماية الله، وأنهم لا يخافون من كيد البشر، لأن قلوبهم متصلة بالحق.
ثالثًا: الإمام الرفاعي.. نموذجٌ للولاية الحقيقية
1. زهد بلا تكلّف
لم يكن الإمام الرفاعي يبحث عن المال أو النفوذ، بل كان يعيش حياة البسطاء، يلبس الثياب الخشنة، ويأكل الطعام البسيط، ويقول:
“من أراد الله، فلا يشغله شيء عن الله”.
2. ولاية بلا غرور
على الرغم من الكرامات العظيمة التي رآها الناس منه، كان يقول:
“الكرامة الحقيقية هي الاستقامة، وأما المشي على الماء والطيران في الهواء، فلا قيمة له إذا لم يكن القلب متعلقًا بالله”.
3. العلم قبل الكرامة
كان يرى أن الكرامة ليست هدفًا، بل وسيلةً لتعميق الإيمان، وكان يقول لتلاميذه:
“إذا رأيتَ رجلًا يُريك الخوارق، فانظر إلى حاله مع الله، فإن وجدته على الاستقامة، فاتبعه، وإلا فاحذر منه”.
رابعًا: دروسٌ من حياة الإمام الرفاعي
1. الولاية ليست خوارق فقط
* كثيرون يعتقدون أن الولي هو من يصنع العجائب، لكن الإمام الرفاعي كان يرى أن الولاية هي القرب من الله، والإحسان إلى الناس.
2. التواضع سرّ القرب من الله
* رغم مكانته الروحية العظيمة، كان يكنس المسجد، ويطهو الطعام للفقراء، ويخدم المساكين، ويقول:
“الخادم الحقيقي هو من يخدم عباد الله”.
3. الحب والرحمة فوق كل شيء
كان قلبه مليئًا بالحب، حتى مع من أساءوا إليه، فإذا أذاه أحد، كان يقول:
“غفر الله لك، فإنك لم تؤذني، بل اختبرت صبري”.
وليٌّ لا يُنسى
كان الإمام أحمد الرفاعي شمسًا من شموس الولاية، لم يكن مجرد صاحب كرامات، بل كان روحًا مفعمةً بالإيمان، وعقلًا مستنيرًا بالعلم، وقلبًا ينبض بالرحمة.
ظلّ اسمه خالدًا في سجلات التصوف، وظلت تعاليمه نورًا يهدي السالكين، وكراماته شاهدًا على حب الله لأوليائه.
واليوم، وبعد قرونٍ من رحيله، لا يزال ذكره حاضرًا، لأنه كان رجلًا لله، لم يسعَ إلى الدنيا، فرفع الله قدره في الدنيا والآخرة.
الرحلة القادمة: “كرامات الإمام أبو الحسن الشاذلي: صاحب الحكمة والمعرفة”
في المقال القادم، سنواصل رحلتنا بين الأولياء، ونتوقف عند الإمام أبو الحسن الشاذلي، الذي جمع بين الحكمة العميقة، والمعرفة الواسعة، والكرامات التي جعلته أحد أعمدة التصوف في العالم الإسلامي.
كيف كانت حياته؟ وما سرّ كراماته العجيبة؟ وكيف كان يرى الولاية الحقيقية؟
انتظرونا في “كرامات الإمام أبو الحسن الشاذلي: صاحب الحكمة والمعرفة”، حيث نكشف المزيد من أسرار الأولياء الصالحين.