
بقلم الدكتور ناصر الجندي
حين تتجلى الكرامة في الحكمة
في كل عصرٍ يظهر رجالٌ اصطفاهم الله، وجعلهم مناراتٍ للعارفين، وهداةً للسائرين في طريقه. هؤلاء لم يكونوا مجرد أصحاب كراماتٍ خارقة، بل كانوا أهل معرفةٍ وحكمة، ينقلون الناس من الظلمات إلى النور، ويدلونهم على الطريق المستقيم.
ومن بين هؤلاء الأعلام يبرز الإمام أبو الحسن الشاذلي، القطب الصوفي الكبير، الذي لم يكن فقط صاحب كراماتٍ ظاهرة، بل كان صاحب علمٍ ومعرفةٍ وحكمةٍ نادرة، جعلته أحد أهم رجال التصوف في الإسلام.
كان الإمام الشاذلي مدرسةً قائمةً بذاتها، لم يفصل بين العبادة والعلم، ولم يجعل التصوف هروبًا من الواقع، بل كان يرى أن الكرامة الحقيقية ليست في المشي على الماء، بل في السير على طريق الله بثبات.
فكيف كانت حياته؟ وما هي أبرز كراماته؟ ولماذا ظل اسمه خالدًا حتى اليوم؟ لننطلق في هذه الرحلة، حيث يلتقي التصوف بالحكمة، وحيث تتجلى الكرامة في معرفة الله.
أولًا: من هو الإمام أبو الحسن الشاذلي؟
ولد الإمام علي بن عبد الله الشاذلي في المغرب في أوائل القرن السابع الهجري، ونشأ في بيئةٍ علميةٍ ودينية، لكن روحه كانت تبحث عن شيءٍ أعمق، عن الحقيقة التي لا تراها العيون، ولكن تدركها القلوب.
لم يكتفِ بالعلوم الظاهرة، بل كان رحالةً في البحث عن المعرفة، حتى وجد ضالته في الشيخ عبد السلام بن مشيش، الذي كان معلمه الأول، والمصباح الذي أنار له الطريق.
بعد أن نهل من بحر المعرفة، انتقل إلى تونس، ثم إلى مصر، حيث أسس الطريقة الشاذلية، التي أصبحت من أهم المدارس الصوفية التي جمعت بين التصوف العملي، والعلم الشرعي، والعمل في المجتمع.
ثانيًا: كرامات الإمام الشاذلي.. بين الإلهام والمعرفة
1. كرامة البصيرة.. عندما رأى ما لا يُرى
من أشهر كراماته أنه كان يتمتع ببصيرةٍ نادرة، يرى بها ما في القلوب، ويميز بين الصادق والمنافق، وبين من يسير إلى الله بصدق، ومن يتظاهر بذلك.
ذات يوم، جاءه رجلٌ يدّعي الورع، فنظر إليه الإمام وقال:
“يا هذا، لو كان قلبك كما يظهر وجهك، لكنتَ من أهل الله، ولكن في قلبك شيءٌ غير ذلك”.
فما كان من الرجل إلا أن بكى، واعترف بأنه كان يخدع الناس بمظهره، لكنه في داخله لم يكن صادقًا مع الله.
2. رؤية النبي ﷺ.. كرامةٌ غيرت مسار حياته
كان الإمام الشاذلي قد قرر أن يذهب إلى الحج، لكنه رأى في المنام النبي ﷺ يقول له:
“خذ زادك معك، فإن التوكل لا يعني ترك الأسباب”.
أفاق الإمام من منامه، وأدرك أن التوكل الحق هو الاعتماد على الله مع الأخذ بالأسباب، فقرر أن يأخذ زاده في الرحلة، وعندما وصل إلى مكانٍ مقطوع، كان زاده هو الذي أنقذه من الهلاك.
3. البحر الهائج.. عندما استجابت السماء لدعائه
ذات مرة، كان الإمام الشاذلي على متن سفينة، فهبت عاصفةٌ كادت أن تغرق الجميع. فرفع يديه وقال:
“اللهم إنك أمرتنا بالسير إليك، فجئناك طائعين، فلا تجعلنا من الهالكين”.
وما هي إلا لحظات حتى هدأت العاصفة، وعاد البحر إلى سكونه.
فسأله أحدهم:
“كيف كنت بهذه الثقة وأنت في وسط العاصفة؟”
فقال:
“من عرف الله، لم يخف سواه”.
وهذه الكرامة تعلمنا أن أهل الله لا تهتز قلوبهم في الأزمات، لأنهم يعلمون أن الله معهم في كل حين.
ثالثًا: الحكمة كرامةٌ أعظم من الخوارق
كان الإمام الشاذلي يرى أن الكرامة الحقيقية ليست في الخوارق، بل في فهم الدين، ومعرفة الله، وتربية النفس.
1. ليس العبرة بالمشي على الماء!
كان يقول:
“إذا رأيت الرجل يطير في الهواء، فزن حاله بالكتاب والسنة، فإن وافقهما فاتبعه، وإن خالفهما فاحذره”.
2. الزهد ليس ترك الدنيا بل التحرر منها
* كان يرى أن الزهد لا يعني الفقر، بل يعني ألا يمتلكك المال، حتى لو امتلكت أنت المال.
* قال أحد تلاميذه: “يا سيدي، أرى بعض أتباعك يلبسون ثيابًا جيدة، أليس الزهد في لبس الخشن؟”
* فرد الإمام:
“الزهد في القلب، وليس في الثياب، إنما الزهد ألا يكون في قلبك تعلقٌ إلا بالله”.
رابعًا: دروس من حياة الإمام الشاذلي
1. العلم قبل العبادة
* لم يكن الإمام الشاذلي صوفيًا بالمعنى التقليدي فقط، بل كان عالِمًا يجمع بين الشريعة والحقيقة.
* كان يقول: “لا تصوف بلا فقه، ولا فقه بلا تصوف”، لأن التصوف بدون علم قد يتحول إلى جهل، والعلم بدون روحانيةٍ قد يتحول إلى قسوة.
2. التربية قبل الكرامة
* كان يرى أن الولي الحقيقي هو الذي يربي الناس، وليس الذي يُبهرهم بالخوارق.
* قال مرةً: “ليست الكرامة أن تمشي على الماء، ولكن الكرامة أن تمشي على الصراط يوم القيامة بلا خوف”.
الإمام الشاذلي.. رجلٌ سابقٌ لعصره
كان الإمام أبو الحسن الشاذلي أحد أعظم الأولياء الذين جمعوا بين العلم والتصوف، بين المعرفة والكرامة، وبين العبادة والحياة العملية.
لم يكن مجرد رجلٍ يروي عنه الناس القصص، بل كان مدرسةً قائمةً بذاتها، علّمت الناس كيف يكون التصوف علمًا وحكمةً، وكيف تكون الكرامة وسيلةً للإصلاح، وليست مجرد خوارق تبهر العقول.
واليوم، وبعد قرونٍ من وفاته، لا تزال تعاليمه حيةً، تملأ القلوب بالنور، وتدل السائرين على طريق الله.
ترقبوا الرحلة القادمة: “كرامات الإمام إبراهيم الدسوقي: نور الولاية في مصر”
في المقال القادم، سنتوقف عند شخصيةٍ عظيمةٍ أخرى، أحد أعلام التصوف في مصر، الإمام إبراهيم الدسوقي، الذي كانت كراماته نورًا يهتدي به الناس، وعلامةً فارقةً في مسيرة الأولياء.
فكيف كانت حياته؟ وما هي أسرار ولايته؟ وكيف ترك أثرًا خالدًا في قلوب السالكين؟
انتظروا رحلتنا القادمة مع “نور الولاية في مصر”.