البوابة اليوم … بقلم فكري الرعدي
في غمرة الأحداث الخطيرة والمتتابعة التي تشهدها الأراضي الفلسطينية منذ السابع من أكتوبر المنصرم تضيع الكثير من تفاصيل الجريمة الصهيونية المُكتملة الأركان في كافة مجالات الحياة الإنسانية والتي ترتكبها عصابات الجيش الصهيوني الإرهابي بدم بارد مع سبق الإصرار والترصد والإعلان الإعلامي المدوي عن الحق في ارتكاب الجرائم ما يجعل من رئيس حكومة الكيان الإسرائيلي قاتلاً متسلسلاً ينبغي إضافة اسمه إلى سجل نظرائه من القتلة المتسلسلين في العالم.
من تلك التفاصيل المروعة التي يشهدها الجزء الفلسطيني الغالي على قلب كل العرب، تبرز تفاصيل الجريمة الإسرائيلية الأحدث في الضفة الغربية، إذ اقتحمت خمس سيارات عسكرية ممتلئة بجنود الجيش الإسرائيلي الحرم الجامعي لجامعة بيرزيت بمدينة رام الله في الأربعاء الثامن من نوفمبر الجاري، وعاثت فيه فساداً، إذ دمرت محتويات مبنى الجامعة وأعطبت مقتنيات الطلبة وعبثت بمقر اتحاد طلبة الجامعة، وأحالت أوراق السجلات الأكاديمية لمنتسبي الجامعة إلى حُطام متناثر في أرجاء المكان، ولم تغادر القوة الهمجية المكان إلا بعد أن كسرت البوابة الرئيسية للجامعة.
إن هذه الجريمة التي أقدم جنود الاحتلال الإسرائيلي على ارتكابها في وضح النهار تثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن هؤلاء وقادتهم يسيرون على منهج واحد يتضمن كل مكونات العنصرية والهمجية والنازية القديمة الجديدة، إذ لا يمكن لأي إسرائيلي أن يدعي أن العبث بمؤسسة جامعية يأتي في سياق الدفاع عن النفس، فالجامعة ليس قاعدة عسكرية وليست موقعاً لإطلاق الصواريخ. كما أنها ليست مصنعاً للأسلحة التي تقض مضاجع قادة الكيان الإسرائيلي في تل أبيب.
إن همجية الجريمة الإسرائيلية ضد جامعة بيرزيت الفلسطينية تؤكد أن قادة كيان الاحتلال الإسرائيلي يؤمنون إيماناً مطلقاً بمقولة زعيمهم القديم ديفيد بن جوريون التي نصت على أن قيام دولة إسرائيل في مايو 1948 لا يُعدُ نصراً يهودياً كاملاً، بل إن النصر الحقيقي للإسرائيليين يتحقق عندما ينجحوا في تحويل كل الطلاب العرب إلى حَطَّابِين (يعملون في مهنة اقتطاع الحطب نظراً لافتقارهم المؤهلات العلمية)..!!
إن تلك الجريمة تشير إلى خوف شديد يتملك الصهاينة من مستقبل مجهول يُمكن للطلبة الفلسطينيين أن يسهموا بفاعلية في صياغته وفق رؤية وطنية عربية إنسانية تُفضي في نهاية المطاف إلى بناء دولة فلسطينية مستقلة تصون كرامة المواطن وتجعل للشعب الفلسطيني مكاناً لائقاً تحت الشمس في عالم تتغير اتجاهاته كل لحظة بفعل تداعيات الأزمات والحروب التي يصنعها سادة الجريمة وأعداء الإنسانية.
إن الجامعة هي مصنع الفكر وبالفكر تنتج الثقافة وتتراكم الإنجازات العلمية التي تخدم التنمية وتحسن الحياة الإنسانية وتمنح الإنسان المزيد من الخيارات في تحديد مصيره على المستويين الفردي والجمعي. والجامعة منبع النور الذي يتراجع أمام شعاعه العظيم ظلام الجهل والخرافة والتضليل، والجامعة هي البوتقة التي تصب فيها جهود منتسبيها من الأساتذة والباحثين والطلبة لتثمر بحثاً علمياً رفيعاً يدفع الأفكار البغيضة والقاتلة إلى مزبلة التاريخ ويحقق أعلى ثمار الابتكار والإبداع في سياق ثقافي يربط الإنسان بأخيه الإنسان ويحقق مصالحهما في صداقة تامة مع البيئة بكافة محتوياتها الحية، ولذلك تبذل الدول التي تمتلك قيادات واعية منشغلة بصناعة المستقبل المشرق لشعوبها كافة التسهيلات المالية والقانونية وغيرها لصالح الجامعات والمؤسسات البحثية ومراكز الدراسات العلمية بكافة أشكالها لتصنع المعرفة التي ترفد السياسة والاقتصاد والثقافة بالمعرفة التي يقوم على تفاعلاتها الخلاقة حياة إنسانية راقية ومثمرة.
إن من المؤكد أن البحث العلمي الذي تحتضنه الجامعة يمثل أرقى درجات النضال الإنساني ضد الظلاميين وفي مقدمتهم كيان الاحتلال الإسرائيلي الذي يُصر على نشر ظلام البؤس والدمار في كل مكان يستطيع الوصول إليه بقواته الغاشمة.
وأمام هذه الجريمة الإسرائيلية تبرز العديد من الأسئلة الهامة التي ينبغي على الكيان المحتل وداعميه أن يقدموا للعالم إجابات صريحة عنها؛ هل داهمت قوات الاحتلال الإسرائيلي جامعة بيرزيت بحثاً عن معركة فاصلة مع قوات المقاومة الفلسطينية لتحقق انتصاراً سهلاً دون خسائر تذكر في صفوف القوات المهاجمة؟ أم أن الإسرائيليين كانوا يبحثون عن ورش تصنيع الصواريخ في أروقة الجامعة وقاعات المحاضرات الأكاديمية؟ ومتى سوف تعرض التلفزة الإسرائيلية مشاهد الفيديو التي تثبت تورط السلطة الفلسطينية في إنشاء برنامجاً نووياً سرياً في غرفة اتحاد الطلبة بجامعة بيرزيت؟
ولعل ما قد يثير الضحك إلى حد البكاء أن يخرج علينا مسؤول أوروبي ليؤكد أن الهجوم الإسرائيلي على جامعة بيرزيت يأتي في إطار الدفاع عن النفس الإسرائيلية…!!
في هذه الحالة سوف يكون هذا التصريح صحيحاً مئة بالمئة لأن إسرائيل الظلامية النازية تدافع عن نفسها من الاحتراق بنور العِلْم العربي الذي يفضح الأساطير الإسرائيلية في كافة مجالات الحياة البشرية.
إن هذه الجريمة الإسرائيلية ينبغي أن تكون مثار بحث ودراسة وتدقيق من قبل المؤسسات الأكاديمية والإعلامية العربية لمناقشة أبعادها وربطها بتاريخ الجرائم الصهيونية ضد العلماء العرب وفي مقدمتهم علماء الذرة في مصر والعراق كي لا ننسى أن الكيان الغاصب يريد تحقيق التفوق العلمي بكل الوسائل بما فيها تدمير المؤسسات الأكاديمية العربية بشتى الطرق السرية والعلنية، وهذه الجريمة تمثل جرس إنذار لكل العرب بضرورة الحفاظ على المؤسسات الأكاديمية والبحثية وتطويرها والارتقاء بمخرجاتها ورفدها بالدماء الجديدة وفتح آفاق أرحب أمام الباحثين الجُدد للإسهام بصياغة مستقبل مشرق للوطن العربي وفق رؤية علمية سليمة.