
بقلم الدكتور ناصر الجندي
عندما تقرأ عن الصحابة، ستجد أن علاقتهم بالنبي ﷺ لم تكن مجرد حبٍّ عادي، بل كانت عشقًا استثنائيًا نابعًا من قلوب امتلأت بالإيمان، وأرواح تعلَّقت برسول الله ﷺ حتى صار أحبَّ إليهم من أنفسهم وأموالهم وأولادهم. كان حبًّا صادقًا، لا يعرف المجاملة ولا يتوقف عند الكلمات، بل امتدَّ إلى كل تفاصيل حياتهم، فظهر في تضحياتهم، وطاعتهم، وشوقهم، وحرصهم على كل كلمة تخرج من فمه الشريف.
دعونا نغوص معًا في بعض المشاهد التي تُظهر كيف كان الصحابة يعشقون نبيهم ﷺ، ونرى كيف تجلَّى هذا الحب في أروع صوره.
1. أحب إليهم من أنفسهم
تصوَّر أن تكون في موقف يختبر حبك الحقيقي لأحد، حين يتعارض حبك له مع حبك لنفسك. هذا ما حدث مع الصحابة، فقد كانوا يقدِّمون النبي ﷺ على أنفسهم بلا تردد.
عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ذلك الرجل القوي الجريء، جاء يومًا إلى النبي ﷺ وقال له بصراحته المعهودة: “يا رسول الله، لأنت أحب إليَّ من كل شيء إلا من نفسي”. كان يتحدث بمنطق البشر، فمن الطبيعي أن يكون حب الإنسان لنفسه أولًا، لكن النبي ﷺ أراد أن يُعلِّمه معنى الحب الحقيقي، فقال له: “لا، والذي نفسي بيده، حتى أكون أحبَّ إليك من نفسك”.
عمر، بكل ما فيه من صدق وإخلاص، لم يحتج وقتًا للتفكير، بل راجع نفسه فورًا، وقال بحزم: “فإنه الآن، والله، لأنت أحب إليَّ من نفسي”. عندها ابتسم النبي ﷺ وقال: “الآن يا عمر” (رواه البخاري).
إنها لحظة تحول، لحظة إدراك أن الحب الحقيقي ليس مجرد شعور، بل هو أن تضع محبوبك قبل نفسك في كل شيء.
2. حب يتجاوز الخوف والموت
الحب يُقاس في لحظات الخطر، عندما يكون التراجع أسهل، لكن الصحابة أثبتوا أن حبهم للنبي ﷺ كان أقوى من الخوف وأعظم من أي تهديد.
خذ مثلًا ما فعله أبو بكر الصديق رضي الله عنه يوم الهجرة. كان يمشي مع النبي ﷺ في الصحراء، لكن عجيبًا أنه لم يكن يسير خلفه طوال الوقت، بل كان يتحرك بطريقة غريبة؛ تارة يمشي أمامه، وتارة خلفه، وأحيانًا عن يمينه، وأحيانًا عن يساره!
النبي ﷺ لاحظ ذلك، فسأله: “ما لك يا أبا بكر؟” فقال بصوت يحمل كل معاني الحب والوفاء: “يا رسول الله، أذكر الطلب (أي الأعداء الذين يلاحقونهم) فأمشي خلفك، ثم أذكر الرصد (أي الذين قد يكمنون لهم في الأمام) فأمشي أمامك، ثم أذكر أنهم قد يأتون من يمينك أو شمالك فأتحرك لأحميك منهم”.
وحين دخلا غار ثور، لم يسمح أبو بكر للنبي ﷺ بالدخول حتى تفقده أولًا، وسدَّ كل فتحة فيه بجسده، ولمَّا وجد ثغرة لم يجد شيئًا يسدها به، وضع قدمه فيها. وبينما كان النبي ﷺ نائمًا على حجره، لدغ شيء قدم أبي بكر، لكنه لم يحرك قدمه حتى لا يوقظ النبي ﷺ. كان الألم لا يُحتمل، فبدأت دموعه تنزل دون أن يصدر صوتًا، وحين سقطت دموعه على وجه النبي ﷺ، استيقظ وسأله: “ما بك يا أبا بكر؟” فأخبره، فمسح النبي ﷺ على قدمه، فشُفيت في الحال.
أي حب هذا؟ حب جعله يضع جسده درعًا للنبي ﷺ دون تردد، حب جعله ينسى الألم، حب وصل إلى قمة التفاني والإيثار.
3. شوق لا ينطفئ
كان الصحابة يحبون النبي ﷺ لدرجة أنهم لا يستطيعون فراقه. تخيَّل أن يكون هناك شخص تحبه لدرجة أنك لا تحتمل فكرة أنك قد لا تكون معه في الآخرة!
أحد الصحابة جاء إلى النبي ﷺ والقلق يملأ قلبه، وقال له: “يا رسول الله، إنك أحب إليَّ من نفسي وأهلي، وأشتاق إليك، وأخشى أنه إذا دخلتَ الجنة كنتَ في الدرجات العليا مع النبيين، وأنا إن دخلتها فإني سأكون في درجة أقل، فلن أراك!”
هذا القلق كان صادقًا، فهو لا يريد مجرد دخول الجنة، بل يريد أن يكون قريبًا من النبي ﷺ هناك أيضًا! لم يُجب النبي ﷺ فورًا، حتى نزل قول الله تعالى:
﴿وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُو۟لَـٰئِكَ مَعَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ ٱلنَّبِيّين وَٱلصِّدِّيقِينَ وَٱلشُّهَدَآءِ وَٱلصَّـٰلِحِينَ وَحَسُنَ أُو۟لَـٰئِكَ رَفِيقًۭا﴾ (النساء: 69).
لقد جاءت الآية لتطمئن كل عاشق للنبي ﷺ، أن من أطاعه سيكون معه في الآخرة.
4. الحب في ساحة المعركة
في غزوة أُحد، عندما هاجم المشركون النبي ﷺ وأرادوا قتله، وقف الصحابة بجسَدهم أمام السيوف دفاعًا عنه.
طلحة بن عبيد الله كان واحدًا من هؤلاء العشاق، فقد جعل جسده درعًا للنبي ﷺ، حتى أصيب في يده إصابة بالغة شلَّت يده إلى الأبد. وعندما رأى النبي ﷺ إخلاصه، قال: “من أحب أن ينظر إلى شهيد يمشي على الأرض، فلينظر إلى طلحة”.
أما أبو دجانة، فوقف بجسده أمام النبي ﷺ يتلقى السهام بدلاً منه، حتى صار ظهره مليئًا بالجروح، لكنه لم يتحرك، لم يكن يفكر في حياته، كان كل ما يهمه هو سلامة النبي ﷺ.
5. الحزن الذي غطَّى المدينة
عندما توفي النبي ﷺ، لم تكن المدينة كما كانت، فقد أصبح كل شيء فيها مظلمًا وحزينًا. يقول أنس بن مالك رضي الله عنه:
“ما رأيت يومًا كان أحسن ولا أضوأ من يوم دخل علينا رسول الله ﷺ المدينة، وما رأيت يومًا كان أقبح ولا أظلم من يوم مات فيه رسول الله ﷺ.”
كان النبي ﷺ روح المدينة، وكان فقدانه فراغًا لا يمكن ملؤه.
هل نحب النبي ﷺ كما أحبوه؟
قد لا نعيش في زمن النبي ﷺ، لكن حبنا له لا يجب أن يكون أقل من حب الصحابة له. إذا كان الصحابة قد ضحوا بأرواحهم من أجله، فنحن يمكننا أن نظهر حبنا له باتباع سنته، والالتزام بأخلاقه، والحرص على نشر رسالته.
فلنجعل حب النبي ﷺ حيًا في قلوبنا، كما كان حيًا في قلوب الصحابة. اللهم اجعلنا من الذين يعشقون نبيك ﷺ بقلوبهم وأفعالهم، وارزقنا مرافقته في الفردوس الأعلى.