
بقلم – دكتور أشرف إبراهيم زيدان
جامعة بور سعيد
في أوائل ستينيات القرن السابع عشر، الفترة التي يُعتقد أن أحداث رواية أفرا بيهن “أورونوكو” وقعت خلالها، لم تكن إنجلترا قد أصبحت بعد قوة كبرى في تجارة الرقيق. في المقابل، كانت البرتغال قد مارست الاتجار بالعبيد الأفارقة بنشاط لأكثر من قرنين، بينما أسست إسبانيا إمبراطورية مربحة لصناعة السكر عبر استيراد العمالة المستعبدة إلى العالم الجديد. حتى في وقت مبكر من ستينيات القرن السادس عشر، كان القبطان الإنجليزي جون هوكينز يقوم بنهب العبيد من إفريقيا وأمريكا اللاتينية. ومع ذلك، لم تدخل إنجلترا مجال تجارة الرقيق بشكل كامل إلا في عام 1660، عندما ساهم الملك تشارلز الثاني في إنشاء شركة “المغامرون الملكيون في أفريقيا”، التي كانت بمثابة نقطة انطلاق لهذا النشاط.
بدأت أولى السفن البريطانية بنقل العبيد من ساحل الذهب في إفريقيا (غينيا) إلى سورينام وجزيرة بربادوس، التي كانت آنذاك مركزًا مزدهرًا لصناعة السكر في منطقة الكاريبي. ومع حلول أوائل القرن الثامن عشر، أصبحت جامايكا المستعمرة الرائدة في إنتاج السكر واستخدام العمالة المستعبدة. استمرت تجارة العبيد في التوسع، وفي عام 1713، حصلت بريطانيا العظمى على عقد “أسينتو” لاستيراد العبيد إلى جزر الهند الإسبانية. اشترت شركة بحر الجنوب هذا العقد، مما أثار موجة من المضاربات المحمومة. كانت هذه التجارة محفوفة بالمخاطر، لكنها حققت أرباحًا هائلة. نمت مدينتا بريستول وليفربول لتصبحا موانئ رئيسية في تجارة العبيد، حيث تبادلت السلع المصنعة مقابل البشر في إفريقيا. ثم عبر هؤلاء العبيد المحيط الأطلسي على متن سفن عادت إلى إنجلترا محملة بالسكر والأموال، مما ساهم في ازدهار الاقتصاد البريطاني.
بحلول ثمانينيات القرن الثامن عشر، عندما شحنت بريطانيا حوالي 300 ألف عبد إلى العالم الجديد، أصبحت التجارة جزءًا أساسيًا من الاقتصاد الوطني. ومع ذلك، كانت التكلفة البشرية لهذه التجارة مروعة. فعلى الرغم من أن العبودية كانت موجودة في إفريقيا منذ زمن بعيد، فإن الرحلة المميتة عبر المحيط الأطلسي، المعروفة بـ “الممر الأوسط”، أضافت إليها مستوى غير مسبوق من الوحشية والمعاناة. كان العبيد يُنتزعون من أوطانهم ويُكدسون في مساحات ضيقة للغاية، بالكاد تسمح لهم بالحركة، مع الحد الأدنى من الطعام والشراب والهواء اللازمين للبقاء على قيد الحياة. تشير التقديرات إلى أن متوسط الوفيات خلال هذه الرحلات كان حوالي 10%، بينما قد ترتفع النسبة إلى أكثر من 30% في الحالات السيئة، مما يعكس مدى القسوة المرافقة لهذه التجارة.
كانت الثورات والتمردات بين العبيد شائعة، لكنها نادرًا ما كانت تنجح نظرًا لعدم وجود مكان يلجأ إليه الهاربون، وكان القمع الذي يواجهونه وحشيًا للغاية. وحتى أولئك الذين نجوا من رحلة “الممر الأوسط” لم يشعروا بالنجاة لفترة طويلة. في مزارع السكر في منطقة الكاريبي، حيث كان العمل يتطلب جهدًا شاقًا ومستمرًا، كانت معدلات الوفيات مرتفعة للغاية، مما جعل الحاجة إلى إمدادات جديدة من العبيد دائمة. على النقيض، في أمريكا الشمالية، كان العبيد يعيشون لفترات أطول، مما أدى إلى زيادة أعدادهم عبر التوالد الطبيعي. ومع ذلك، فقد تمزقت روابط العبيد مع ثقافاتهم الأصلية. ونظرًا لأنهم كانوا يُجلبون من مناطق مختلفة في إفريقيا دون لغة أو خلفية مشتركة، صاروا يُعرفون فقط بلون بشرتهم. وكان ذلك يخدم مصالح أصحاب العبيد الذين وجدوا في هذه النظرة المادية مبررًا لاعتبارهم أقل من البشر.
امتدت خسارة الإنسانية لتطال بريطانيا نفسها. فقد اعتاد الإنجليز أن ينظروا إلى أنفسهم كشعب مميز ملتزم بقيم الحرية، مستلهمين روحهم الوطنية من “الميثاق الأعظم”(1215) . عبر الشاعر جيمس تومسون عن هذا الفخر الوطني في قصيدته احكمي يا بريطانيا:” احكمي يا بريطانيا، احكمي الأمواج؛ لن يصبح البريطانيون عبيدًا أبدًا.” ولكن في الواقع، كان الحكم البريطاني يعني فرض العبودية على الآخرين.
انعكست التناقضات العميقة المحيطة بهذا الموضوع في الفلسفة السياسية لجون لوك وتفسيرات ويليام بلاكستون للقانون. حاول بعض البريطانيين تبرير العبودية بالادعاء بأنها ساهمت في “رفع شأن” الأفارقة من خلال إدخالهم إلى المسيحية والحضارة. على سبيل المثال، عبّرت الشاعرة الأمريكية من أصل أفريقي، فيليس ويتلي، عن امتنانها لهذا “التحول” في سياق أعمالها. مع ذلك، شعر العديد من البريطانيين بالاضطراب والانزعاج إزاء هذه الممارسات. وازدادت المشاعر الإنسانية ضد العبودية قوة خلال أواخر القرن الثامن عشر. وبرزت في هذا السياق الرسائل الشهيرة بين الكاتب الأسود إغناطيوس سانشو والروائي لورانس ستيرن، مؤلف “تريسترام شاندي”، حيث أظهرت تعاطفهما المشترك مع ضحايا تجارة الرقيق. كانت هذه القسوة تشويهًا صارخًا للطبيعة الإنسانية، مما زاد من الدعوات المناهضة للعبودية.
بحلول ثمانينيات القرن الثامن عشر، اجتاحت بريطانيا موجة من الحماسة المناهضة للعبودية، قادها الكويكرز، وفي البرلمان بقيادة ويليام ويلبرفورس (1759-1833). لعبت “جمعية إلغاء تجارة الرقيق”، التي تأسست عام 1787، دورًا محوريًا في إلهام العديد من الشعراء المناهضين للعبودية للانضمام إلى الحملة. ومع ذلك، بعد سنوات قليلة، أدت الثورة الفرنسية والحروب التي أعقبتها إلى رد فعل محافظ في بريطانيا. كان جيمس بوسويل، الذي دافع سابقًا عن العبودية في نقاشاته مع صمويل جونسون، قد كتب قصيدة بعنوان “لا لإلغاء العبودية” عام 1791. ومع ذلك، انتصر ويلبرفورس في النهاية، حيث تم تمرير مشروع قانون يلغي تجارة الرقيق البريطانية وأصبح قانونًا في عام 1807. لكن هذا القانون لم يضع حدًا للتجارة غير المشروعة، فضلاً عن استمرار العبودية نفسها. انتقل التناقض بين التفاخر بالحرية واستعباد البشر من بريطانيا إلى أمريكا، حيث ستُحسم العواقب عبر صراع دموي. ورغم أن القرن الثامن عشر شهد ذروة تجارة الرقيق، إلا أنه أيضًا كان حافلاً بنشوء مبادئ الحرية والمساواة وحقوق الإنسان التي ساهمت في القضاء على هذه الممارسة البشعة.