مقال
المصريون في الخارج.. الثروة الغائبة عن وطنها

المصريون في الخارج.. الثروة الغائبة عن وطنها
كتب يسري الكاشف
إعداد عادل شلبي
عبر التاريخ كانت مصر ولادة للعقول، مصدّرة للعلم والفكر والإبداع. لكن المفارقة أن بعضًا من أبرع هذه العقول يعيش اليوم بعيدًا عن أرض الوطن، متناثرًا في أوروبا وأمريكا والخليج، حيث صنعوا لأنفسهم أسماءً لامعة في الطب والهندسة والاقتصاد والسياسة والإعلام. إنهم مصريون حملوا معهم حضارة سبعة آلاف عام في قلوبهم، وأضافوا إليها خبرات ومعارف من أرقى المجتمعات. وبينما تستفيد الدول التي يعيشون فيها من إنجازاتهم، يقف الوطن الأم مترددًا في استدعائهم وإعطائهم الدور الذي يستحقونه. أليس هؤلاء هم الثروة الحقيقية التي يمكن أن تصنع نهضة؟ أليسوا هم الامتداد الطبيعي لقوة مصر الحضارية والحديثة معًا؟
المصريون في الخارج ليسوا مجرد جالية عابرة أو قوة مالية تقتصر على التحويلات، بل هم كنز بشري ومعرفي حقيقي، يمثلون امتدادًا لروح مصر عبر العالم. أكثر من اثني عشر مليون مصري يعيشون اليوم في أوروبا وأمريكا وآسيا والخليج، بينهم علماء وأطباء وخبراء ورجال أعمال ومفكرون وقادة مؤسسات، صقلتهم التجارب العالمية في مجتمعات متقدمة، وأكسبتهم خبرات نوعية لا تقدر بثمن. هؤلاء يجمعون بين ذاكرة حضارة ضاربة في عمق التاريخ وبين عقل حديث تَشَكَّل في بيئات معرفية وصناعية متطورة، ما يجعلهم قوة مزدوجة يمكن أن تغير مسار الدولة المصرية إذا أُحسن توظيفها.
المعضلة الحقيقية أن مصر حتى اليوم لم تضع لهؤلاء إطارًا مؤسسيًا واضحًا يجعلهم شركاء في التنمية وصناعة القرار. هناك فجوة قائمة بين الداخل والخارج، بيروقراطية تقف عائقًا، ورؤية سياسية لم تصل بعد إلى استيعاب أن رأس المال البشري لا يقل قيمة عن رأس المال المالي. كثير من الدول التي نهضت خلال العقود الأخيرة، وعلى رأسها الصين، لم تكن لتصل إلى ما وصلت إليه لولا جالياتها. الصين استثمرت أبناءها في الخارج عبر برامج كبرى مثل “برنامج الألف موهبة” الذي أعاد آلاف العلماء من الغرب، ومن لم يعد جسدًا بقي حاضرًا عبر شراكات علمية واستثمارية ربطت المهجر بالوطن. والنتيجة أن العقول الصينية في الخارج لعبت دورًا محوريًا في نقل التكنولوجيا ورأس المال والخبرة، وكانوا جسرًا للنهضة الاقتصادية التي أبهرت العالم.
مصر ليست أقل شأنًا من الصين أو الهند أو غيرها من الدول التي نجحت في بناء لوبيات ومؤسسات تعتمد على جالياتها. المصريون في الخارج يمكن أن يكونوا خط الدفاع الأول عن مصالح مصر في المحافل الدولية، وصوتها في الإعلام الغربي، وقوتها الناعمة في الثقافة، كما يمكن أن يكونوا عقلها المفكر في الاقتصاد والسياسة والعلم. وإذا كان اليهود قد بنوا قوة عالمية بالاعتماد على شتاتهم، فإن المصريين يمتلكون من العدد والخبرة والرصيد الحضاري ما هو أوسع وأعمق إذا وُجدت الإرادة السياسية والرؤية الاستراتيجية.
الوقت لم يعد يحتمل التباطؤ، ومصر بحاجة إلى أن تدرك أن أبناءها في الخارج ليسوا غرباء ولا مجرد مهاجرين، بل هم ذراعها الممتدة وصورتها في العالم. إشراكهم بشكل فعلي في مؤسسات الدولة، سواء عبر مجلس وطني للمصريين بالخارج أو عبر مقاعد تمثيلية في البرلمان أو عبر برامج علمية واستثمارية جاذبة، قد يشكل التحول الأكبر في تاريخ مصر الحديث. فالتاريخ لا يصنعه من يكتفون بما لديهم، بل من يعرفون كيف يوظفون كل مواردهم، وأعظم ما تملكه مصر اليوم بعد تاريخها العريق هو أبناؤها المنتشرون في أصقاع الأرض، الذين يمكن أن يكونوا سر النهضة إذا فُتح لهم الباب وأُعطوا المكانة التي تليق بهم.
سيادة الرئيس عبد الفتاح السيسي، بعقليتكم العظيمة ورؤيتكم التي تسعى إلى بناء دولة قوية حديثة، يبقى السؤال مطروحًا: لماذا لم تلتفت الدولة بعد إلى هؤلاء العظماء من أبناء مصر في الخارج؟ لماذا لم يُمنحوا المكانة التي يستحقونها ليكونوا شركاء حقيقيين في مشروع الجمهورية الجديدة؟ إنهم ثروة قومية جاهزة، ذخر استراتيجي يمكن أن يختصر عقودًا من الجهد إذا ما أُحسن استدعاؤه. فلتكن نظرتكم الحاسمة هي المفتاح الذي يفتح الباب أمام ملايين العقول المصرية المغتربة لتعود إلى حضن الوطن، شريكًا فاعلًا لا زائرًا عابرًا، وليكتب التاريخ أنكم كنتم القائد الذي جمع شتات المصريين ليصنع بهم نهضة وطن يستحق أن يكون في مقدمة الأمم.
المصريون في الخارج.. الثروة الغائبة عن وطنها