قدسية بناء الإنسان: رؤية فلسفية وتربوية في ضوء القيم الإلهية

بقلم الخبير التربوي الدكتور ناصر الجندي
إن بناء الإنسان هو الغاية الأسمى التي سعت إليها الأديان والفلسفات عبر التاريخ، فهو ليس مجرد كائن مادي يسعى لتلبية حاجاته الفسيولوجية، بل هو صنيعة الله، مكرم بالعقل والروح، محمل بالأمانة والمسؤولية تجاه نفسه والكون من حوله.
لقد أكدت النصوص الدينية والفكرية على أن الإنسان محور كل نهضة حضارية، ولا يمكن للمجتمعات أن تزدهر دون الاستثمار في بناء الإنسان علميًا، وأخلاقيًا، وروحيًا. يقول الله تعالى في القرآن الكريم: “وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي” (الحجر: 29)، وهذا دليل على أن الإنسان يحمل في ذاته بُعدًا إلهيًا يجعله قادرًا على تحقيق الخير والعدل إذا تمت تربيته بشكل سليم.
ومن هذا المنطلق، فإن الحديث عن قدسية بناء الإنسان يتطلب دراسة عميقة للعوامل التي تسهم في تكوينه، سواء من منظور ديني أو تربوي أو فلسفي، مع تحليل التحديات التي تواجهه في العصر الحديث واقتراح استراتيجيات تضمن بناء إنسان متوازن ومتكامل.
أهمية بناء الإنسان في الأديان والفلسفات
الرؤية الدينية لبناء الإنسان
تشترك الأديان السماوية جميعها في التأكيد على قدسية الإنسان وضرورة الارتقاء به فكريًا وأخلاقيًا. ففي الإسلام، نجد أن الله كرّم الإنسان بالعقل وميّزه عن سائر المخلوقات، كما قال تعالى: “وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ” (الإسراء: 70). وهذا التكريم لا يقتصر على الجانب الجسدي فقط، بل يشمل الأبعاد الروحية والمعرفية.
أما في المسيحية، فقد ركّز السيد المسيح على أهمية بناء الإنسان أخلاقيًا وروحيًا، حيث قال: “طوبى لأنقياء القلب، لأنهم يعاينون الله” (متى 5: 8)، مما يدل على أن الارتقاء بالإنسان مرتبط بصفاء القلب والنية.
أما في اليهودية، فيرد في سفر التكوين أن الإنسان خُلق على صورة الله، وهذا يعني أنه مسؤول عن عكس الصفات الإلهية في سلوكه من خلال العدل والرحمة والسعي للمعرفة.
الرؤية الفلسفية والتربوية لبناء الإنسان
عبر التاريخ، تناول الفلاسفة والمفكرون قضية بناء الإنسان من زوايا متعددة. فقد أكد أفلاطون في كتابه الجمهورية أن بناء الإنسان يتم من خلال تربيته على الفضيلة والعلم، حيث قال:
“يجب أن يكون الإنسان مدركًا للحقيقة، متربيًا على الخير، مدفوعًا نحو العدل.”
أما أرسطو، فقد رأى أن الإنسان كائن اجتماعي يحتاج إلى التربية السليمة ليحقق إمكاناته، حيث قال:
“لا يمكن للإنسان أن يبلغ كماله إلا من خلال تفاعله مع المجتمع والتزامه بالقيم الأخلاقية.”
وفي العصر الحديث، أكد جون ديوي (Dewey, 1916) على أن التعليم هو الأداة الأكثر فعالية لبناء الإنسان، مشيرًا إلى أن التربية يجب أن تتجاوز الحفظ والتلقين لتصبح تجربة حياتية تنمي التفكير النقدي.
التحديات التي تواجه بناء الإنسان في العصر الحديث
1. الثورة الرقمية وتأثيرها على القيم الإنسانية
أدى الانتشار الواسع للتكنولوجيا إلى ظهور تحديات جديدة في بناء الإنسان، إذ باتت وسائل التواصل الاجتماعي تؤثر على تشكيل الهوية الشخصية والقيم الاجتماعية، مما يستدعي وعيًا نقديًا عند التعامل مع هذه الوسائل.
2. التعليم التقليدي مقابل التعليم الحديث
لا تزال العديد من النظم التعليمية تعتمد على التلقين بدلاً من تشجيع التفكير النقدي والإبداع، مما يؤثر على قدرة الإنسان على مواجهة المشكلات بفعالية.
3. تراجع القيم الروحية والأخلاقية
مع تزايد النزعة الاستهلاكية، أصبحت القيم المادية تطغى على الروحانية، مما أدى إلى تفاقم مشكلات القلق والاكتئاب وفقدان المعنى في الحياة.
استراتيجيات بناء الإنسان في العصر الحديث
لمواجهة هذه التحديات، ينبغي التركيز على عدة استراتيجيات:
1. إصلاح المناهج التعليمية بحيث تتبنى أساليب تدريس تنمي مهارات التفكير النقدي والإبداعي.
2. تعزيز التربية الروحية والأخلاقية من خلال دمج القيم الدينية والأخلاقية في الحياة اليومية والتعليمية.
3. إعادة الاعتبار لدور الأسرة والمجتمع في غرس القيم الإنسانية والهوية الثقافية.
4. تشجيع القراءة والتعلم المستمر لبناء وعي مستنير يواكب التغيرات العالمية.
الخلاصة
إن بناء الإنسان ليس مجرد عملية تعليمية أو تربوية تقليدية، بل هو مشروع حضاري وروحي يتطلب تكاملًا بين الأبعاد الفكرية، والأخلاقية، والاجتماعية، والروحية. فالإنسان، بصفته صنيعة الله، يحمل في داخله مقومات النمو والارتقاء، لكن هذه المقومات تحتاج إلى بيئة داعمة تتيح له تطوير إمكاناته والوفاء بمسؤوليته في إعمار الأرض.
لقد أكدت الأديان والفلسفات أن الإنسان كائن مكرم، يحمل في داخله بذور الخير والمعرفة، ولكن تنميته تحتاج إلى جهد مستمر من الأفراد والمجتمعات على حد سواء. ولا يمكن تحقيق هذا البناء إلا من خلال تعليم حديث يعزز الإبداع والتفكير النقدي، وتربية أخلاقية ترتكز على القيم الدينية والإنسانية، إضافة إلى بيئة اجتماعية تساند تطور الفرد وتحفزه على تحقيق ذاته.
إن التحديات المعاصرة، مثل التطور التكنولوجي السريع، وانتشار النزعة الاستهلاكية، وتراجع دور القيم الروحية، تجعل من الضروري إعادة النظر في أساليب التربية والتنشئة. فلا يمكن بناء إنسان متوازن في عصرنا الحديث دون رؤية شاملة تدمج بين المعارف الحديثة والتراث الروحي والأخلاقي.
وفي النهاية، يبقى بناء الإنسان مسؤولية مشتركة بين الأسرة، والمؤسسات التعليمية، والمجتمع بأسره. وكما قال الفيلسوف الصيني كونفوشيوس: “إذا خططت لعام، فازرع قمحًا. وإذا خططت لعقد، فازرع شجرًا. وإذا خططت لمئة عام، فقم بتعليم الإنسان.”
المراجع
١. أفلاطون. (400 ق.م). الجمهورية.
2. أرسطو. (350 ق.م). الأخلاق النيقوماخية.
3. Dewey, J. (1916). Democracy and Education. Macmillan.
4. القرآن الكريم، الحجر: 29
5. القرآن الكريم، الإسراء: 70.
6. الإنجيل المقدس، متى 5: 8.